خطوة سبق وأشارت إليها صحيفة «الشرق الأوسط» منذ سنتين، جرى الإعلان عنها يوم أول من أمس؛ مؤسسة سينمائية عربية شاملة، باسم «مؤسسة الفيلم العربي»، تسعى لتكون فاعلاً مؤثرًا في حياة السينما العربية. مؤسسة تقبل، كما يشير منشورها، على «خلق منبر لتبادل الخبرات والأفكار بين محترفي السينما العربية» و«تأمين برامج تدريب من المستوى العالمي للمبدعين في صناعة الأفلام الروائية، الوثائقية والتحريك في المنطقة».
في المؤتمر الصحافي الذي أقيم في اليوم الخامس من أيام «مهرجان دبي السينمائي الدولي» للغاية جلس المؤسسون أمثال الأردني جورج ديفيد والمصري محمد حافظ والتونسية دورا بوشوشة والقطري حافظ علي (هناك من غاب أيضًا) يعرضون أفكارهم حول هذا الموضوع ويكشفون عن أنه بدءًا من عام 2018 سوف تعلن مسابقة على غرار الأوسكار وجائزة الفيلم الأوروبي تشمل 19 بندًا من بينها أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل ممثل وأفضل ممثلة، وفي مجالات أخرى مثل السيناريو والتصوير والمونتاج وغيرها. لكن هناك نقص في المعلومات المتوفرة لما هو أبعد وأعمق.
كيف يمكن لهذه المؤسسة أن تتجاوز عثرات الوضع الصناعي الحالي من إنتاج وتسويق؟ كيف ستتيح للسينمائيين المنضمين تحت لوائها (مقابل 1000 دولار سنويًا و80 دولارًا للأفراد) ضمان عرض أفلامهم في سوق تشرف عليها صالات يرفض معظم أصحابها عرض أفلام لا يرونها رابحة؟ هذه وأسئلة أخرى عليها أن تطرح والمؤسسة على أعتاب بدايتها عوض محاولة مواجهتها لاحقًا لضمان فاعلية عملها ونجاحها المرهون بمعطيات وتفاصيل كثيرة.
ثلاث مواهب
طبعًا من السهل (والمطلوب) طرح هذه الأسئلة وأكثر منها، لكن هذا الطرح لا يجب أن يغطي على أهمية الخطوة بحد ذاتها. نجاحها مرهون بالتوافق بين المؤسسين على تحديد تفاصيل تلك الأهداف المنوطة بها وعلى حيادية واستقلالية المؤسسة بحيث لا تنقلب، وهي مؤسسة خاصة، إلى محط تجاذب للمصالح.
مهرجان دبي نفسه لا يتوقف عن الكشف عن مواهب جديدة وهذا العام تساعده مؤسسة «سكرين» (ناشرة مجلة Screen البريطانية التي تصدر هنا نشرة يومية بالإنجليزية (لأكثر من نصف صفحاتها) والعربية. فهي تدأب على لفت الأنظار إلى مجموعة واعدة من السينمائيين الذين يقفون على درجات المستقبل الأولى.
من بين هؤلاء اللبنانية مٌنيا عقل وهي أنجزت سابقًا فيلمًا حاز الإعجاب عنوانه «بيروت، أحبك» مع شريكة عمل اسمها سيريل عريس. هذا الفيلم القصير دفعهما لتحقيق أفلام قصيرة أخرى تحت العنوان ذاته وكل هذا قبل أن تنجز فيلمها الجديد «غواصة» والآن هي طالبة بجامعة كولومبيا في نيويورك وستتخرّج في مطلع العام المقبل.
على النحو ذاته، نجد المخرجة اللبنانية إيليام الراهب التي تعد العدّة للبدء بتصوير فيلم بعنوان «العائلة العظيمة» The Great Family الذي يقوم على حكاية مثيرة للاهتمام: طفلة فلسطينية لجأت إلى أغصان شجرة لكي تنجو بنفسها خلال مذبحة تل الزعتر في لبنان الحرب الأهلية. تكتشفها عائلة فرنسية وتنقلها إلى مدينة تولوز حيث تعيش. الآن هي امرأة في أربعينات حياتها تكتشف حقيقة تاريخها وأنها ليست طفلة هذه العائلة. ليليان من بين أكثر المواهب اللبنانية الشابة وسبق لها أن أنجزت «أيام بلا نوم» الذي عرض في أحد دورات مهرجان دبي السابقة.
هناك أيضًا عبد الله طايا، وهو مخرج مغربي سبق له أن حقق «جيش الخلاص» سنة 2014 روى فيه، بجدية، حكاية شخصية جريئة تفسر، لمشاهدي الفيلم (وقارئي روايته التي تم اقتباس الفيلم عنها) الظروف العاطفية والاجتماعية التي جعلته مثليًا.
الآن يخطط عبد الله لتحقيق فيلمه المقبل «الكنز» وعلى عكس الفيلم السابق، سوف لن يكون من بطولته ولن يخلو من النجوم أو بعضهم على الأقل. إيزابيل أوبير هي واحدة من الممثلين والممثلات الفرنسيين الذين سيلتحقون بهذا العامل.
حياة خاصة
في الحقيقة، ليس هناك نقص في المواهب العربية العاملة. فجأة رهط جديد من المخرجين ينطلقون للعمل وتقديم أفلامهم الأولى، كما كان الحال في السنوات السابقة، ومهرجان دبي هو من نجح، أكثر من سواه من المهرجانات، في احتواء العدد الأكبر من المحاولات.
هناك، على سبيل المثال فقط، المخرج التونسي محمد بن عطية صاحب «نحبك هادي» الذي يتنافس على المهر الطويل هذا العام. الفيلم كان حظي بفضية مهرجان برلين السينمائي في مطلع هذه السنة ويتحدث عن ذلك الموظف الذي ينتفض من واقعه الرتيب (عمل، بيت، زواج تم إقراره من دون حب) حال يتعرّف على امرأة تعمل مرشدة سياحية. فيلم جيد في كل أركانه مع حاجة لإتمام قدر من التوازن في السرد. الحبكة متواضعة والانتقال بالسيارة ما بين المدينة الكبيرة والبلدة الصغيرة على الشاطئ أكثر من مرّة منهك للفيلم بسبب تكراره. لكن الفيلم، عدا هذه الناحية، جيد ويحمل سمات السينما الأوروبية كحال عدد غير قليل من الأفلام التي ينفذها سينمائيون من شمال أفريقيا.
موهبة أخرى شاهدنا لها فيلمًا هنا في عداد مسابقة المهر الطويل (الذي يضم أفلاما روائية وغير روائية) هو «النسور الصغيرة». المخرج هو محمد رشاد، الذي سبق له أن حقق فيلمين ربما قصيرين. فيلمه الحالي هذا تسجيلي طويل يطوف بعلاقة المخرج نفسه بأبيه وبالذكريات وبثورة الربيع ومن خلال ذلك يكتشف ماضي والده ويقف على المستقبل الافتراضي لحياته.
هذا واحد من أفلام متكاثرة شملت للآن أفلاما لبنانية وعراقية ومصرية تصر على أن تدور حول شخوص مخرجيها أو عن عائلاتهم المباشرة. لكن في حين أن فيلمًا هادرًا بالأحداث في هذا المفاد، مثل «أوديسا عراقية» للمخرج سمير (كما يكتفي باسم واحد)، تعجز كثير من الأفلام الأخرى عن جذب الاهتمام لما هو سرد رتيب لحياة خاصة قد يؤمن المخرج بضرورة صنع فيلم عنها، لكن غالبًا لا يوازي هذا الاهتمام أي تفعيل يُثيره.
في العروض المتسابقة أيضًا فيلم آخر لمخرج جديد هو فاتشي بولغورجيان عنوانه «ربع». دراما أسرة مصنوعة بقدر كبير من العناية حتى لا تتهاوى تحت أي ثقل ميلودرامي حول شاب أعمى اسمه ربيع (عنوان الفيلم أيضًا) يريد السفر لكن جواز السفر الذي بحوزته مزوّر. عليه الآن البحث عن وثيقة ميلاده وبالتالي عن هويته في بلد بات يعيش بلا هوية.
في قعر الحياة
هؤلاء المخرجون، وسواهم في المسابقة أو خارجها، يشاطرون المخرجين الأكثر تجربة من بينهم إيليان الراهب ذاتها التي قدّمت هنا «ميّل يا غزيّل»: انسياب تسجيلي حول رجل مسيحي اسمه هيكل يعيش في أعالي جرود عكّار وكيف يدير شؤون حياته ويتواصل مع أبناء المنطقة التي تضم مسيحيين ومسلمين. للفيلم ناصية حب الاكتشاف ممارسة بدافع فضول واضح. إيليان تحب إثارة الشغب بصمت. تترك كاميرتها معلّقة بأهداب وجوه قد تقول الحقيقة وقد تخفيها.
على ذلك، فإن الفيلم يعجز - بكليّته عن تبرير موضوعه على نحو يتجاوز شخصيته المحتفى بها. هو حريص على إظهار رغبة هيكل حماية أصر المودة والعلاقات القائمة بين مختلف الأطراف، لكنه يستمر على نحو استطرادي (كان بالأصل فيلمًا قصيرًا) بحرارة محدودة.
إنها الشخصيات الوحيدة التي تركتها الحياة تعيش بأقل ما يمكن لها من فرص وحظوظ وقدرات. لكن «ميّل يا غزيّل» لا يثير الأسى مطلقًا وشخصياته تظهر قوية ومتحدية على عكس أفلام أخرى شوهدت هنا.
أحد هذه الأفلام هو المصري «أخضر يابس» للمخرج محمد حمّاد. دراما رائعة التنفيذ، كتابة وإخراجًا مع تمثيل جيد من هبة علي التي تقود الحكاية منفردة. إنها الشقيقة الأكبر التي عليها أن تعمل وتؤمن الحياة المعيشية للبيت وتساعد شقيقتها الصغرى (أسماء فوزي) على تجهيز نفسها لحفل العرس وتبحث عن معين بين أقربائها من الرجال لكي يؤمّوا حفلة الزفاف وينوبوا عن الأب الراحل في إتمام شعائرها. لكنها لا تجد أذنًا صاغية. هناك عم قطع العلاقة وآخر يتحجج بقرب سفره وخال مريض.
يفتح الفيلم بؤرته على الحياة التي تركض أمام بطلته وليس معها. المدينة التي تخيب الرجاء والشخصيات الأخرى المكتفية بأقل قدر من المسؤوليات والهموم. إنها وحيدة وسينتهي الفيلم بها على ذلك الوضع.
في هذا التكوين من الشخصيات التي لا تعلو كثيرًا عن مستوى الأرض التي تعيش فوقها، يأتينا فيلم المغربي حكيم بلعباس الروائي «عرق الشتا». إنه المخرج الذي أوفد أفلامه إلى هذا المهرجان أكثر من مرّة فشاهدنا له سابقًا «خيط الروح» و«علاش البحر» و«أشلاء» و«هذه الأيادي» و«شي غادي شي جاي». أعمال دائمًا ما قامت بالالتفاف نحو الناس الأقل حظًا من الآخرين. يعيشون في الريف. يقتاتون من الأرض ويتعاملون مع مواسمها وشروطها القاسية ويودعون أحلامهم وآمالهم في غياهب إدراكهم بأن لا شيء سيتغير بالنسبة إليهم.
«عرق الشتا» هو عن عائلة مؤلفة من الأب وأبيه الخرف وابنه المعاق وزوجته. المصرف يحاول انتزاع أرضه منه وهو يرى كيف سيخسر تلك الأرض إذا ما لم ينقذه نفسه بالهجرة بعدما سدّت سبل الدين أمامه.
خلفية المخرج في السينما التسجيلية موظّفة بجدارة. هناك مخرجون بخلفية تسجيلية يحققون أفلامهم الروائية بالطريقة ذاتها. لكن بلعباس ينسج الروائي والتسجيلي بالأسلوب الموحد نفسه. يعامل من أمامه من شخصيات بنبش تفاصيلها وتجسيد تلك التفاصيل مؤلّفًا قدرة على منح الحياة بكاملها كل ما هو حاضر منها. هناك البشر وهناك الماعز وهناك الدجاجات والثعابين والعقارب والنمل تعيش مع الشخصيات الناطقة حياة مشتركة. مصيرها جميعًا مصير واحد.
يلتقط بلعباس خيوطه الدرامية بتأنٍ ويؤسس لشخصياته من دون عجلة. لكنه في النهاية، وبعدما يسبر مليّا وعلى نحو رائع، كل شخصية على نحو منفرد، يواصل التصوير حتى من بعد أن تنتهي، على حسب قوله «الحياة في الفيلم» معتبرًا أن ربع الساعة الأخيرة أو نحوها هي متابعة لـ«الحياة في الحياة».
تسجيلي عن سوريا
كل هذا ما يدلف بنا إلى فيلم رائع آخر هو الفيلم السوري (التسجيلي) «ذاكرة باللون الخاكي» (كما يحرص الفيلم تسمية اللون الكاكي المميز للشرطة والأمن) للمخرج ألفوز طنجور.
يبدأ بما يبدو تنفيذ حكم إعدام بحق ولد صغير ثم ينطلق صوب عدة شخصيات سورية انتقلت مضطرة من سوريا إلى الدول التي هاجرت إليها (عبر الأردن وتركيا إلى فنلندا بين أخرى). يسرد المخرج وسط هذه الشخصيات ذكرياته ورؤاه حول سوريا في الأمس القريب واليوم. وتشاركه مختلف الشخصيات الثلاث التي تروي ما حدث لها ووجهات نظرها في تسديد التهم فيما وصلت إليه سوريا من وضع مأسوي وتمزق كبير إلى ذلك المنهج الديكتاتوري لحكّامها متسائلاً، قبيل النهاية، عن كيف يمكن لفرد واحد أن يتحدث عن كل ملايين الأفراد من الناس ويخبرهم ما يقولون ومتى يقولونه.
يعود الفيلم إلى الثمانينات ومجزرة حماة التي أمر بها حافظ الأسد ثم يتقدم تدريجيًا إلى الوضع الحالي ويربط بين الزمانين بنفق ملؤه السجن والتعذيب والإهانة لكل من جرؤ على المعارضة. يأتي على تلك السطوة التي تمتع بها النظام منذ عقود والتي كانت السبب في الثورة العفوية التي انطلق بها الشعب السوري في مطلع الأحداث.
المضمون السياسي والإنساني لا يسيطر وحده ولا كان يمكن له أن يأتي بهذه القوّة لولا نجاح المخرج في رفع مستوى أدواته التقنية والفنية إلى حد يجعل من هذا الفيلم التسجيلي أهم عمل تسجيلي عن الوضع السوري تم تحقيقه منذ بداية الأزمة قبل أكثر من خمس سنوات.
قدرة المخرج على متابعة ما يرد على ألسنة شهود عيانه (كلهم خريجو زنزانات التعذيب) واختيار الصادم مما يروونه والإنساني فيما يتلونه بنسيج من البصريات المؤيدة التي لا تضن على مشاهديها بالرقي في مستوى الصورة ولا في تحميلها المعاني والرموز المتصلة بالوضع المأسوي العام.
أهم ما في كل ذلك أن الفيلم ليس وثائقيًا ولا - بحد ذاته مأسويًا بل يرفض الإذعان لما تذهب إليه أفلام متجزئة أخفقت في منح الموضوع المعالجة الفنية التي يحتاج إليها. المخرج طنجور يهتم بكيف يحقق العمل وليس فقط بماذا يروي فيه. يحشد، ببراعة، كل تلك المشاعر التي يستعرضها ثم يفجرها مونتاجيًا قرب النهاية كبركان ثورة فاعل وحتمي. القصف يختلط بالكلمات الموجعة. الدمار بمشاهد من الوداعة في الدول التي هاجر الآخرون إليها. يكثر من تصوير الجماليات حتى تلك المستنتجة من الواقع المؤسف والحزين. الفيلم بذلك كتلة فنية متلاحمة لا تستعطف ولا تكيل الخطب ولا تستثمر في المأساة إلا في نطاق تقديم عمل راق في معالجته، حريص على إنجازه الفني بقدر حرصه على استطلاع الحقائق وربما أكثر.