سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

فقط الأرُز؟

في كتابه الشهير «الأميركي الهادئ» يرسم غراهام غرين في خبث، الفارق بين الأميركي المتعجل بسذاجة، وبين البريطاني المعتق في فهم الشعوب. يقول المراسل البريطاني القديم لعميل الـ«سي آي ايه» الواصل حديثاً إلى سايغون، والحالم بإنشاء قوة ثالثة بين اليمين والشيوعيين: «اسمعني جيداً يا الدن بايل. أشك كثيراً في أن الفيتناميين تحركم أفكار مثالية كالحرية. إنهم يريدون ما يكفي من الأرز. ويريدون ألا يطلق عليهم أحد النار. يريدون أن يكون اليوم التالي مثل اليوم السابق. ولا يريدون أن يروا أصحاب الجلود البيضاء أمثالنا، يملون عليهم كيف يكونون».
هل أن شعوب العالم الثالث لا تأبه للحرية، ولا تريد سوى الأرز، أو الخبز؟ أليس في ذلك إهانة لأولئك الذين قضوا في فلسطين وسوريا والعراق واليمن وليبيا، طلباً لشيء من الحرية وأملاً بشيء من الديمقراطية؟ إننا نرى نوعاً من اليأس والتسليم، كأننا حقاً شعوب لا تستحق ما استحقته ونالته الشعوب المتمدنة. كتب فيصل القاسم في «القدس العربي» بعد معركة طويلة مع الديكتاتورية، أنه «أليس من الأفضل، صدام واحد بدل مائة صدام في العراق؟ وقذافي واحد بدل آلاف في ليبيا»؟
أتمنى ألا يكون هذا الخيار قدرياً: قذافي أو ألف. لقد خرجت شعوب أوروبا الشرقية في يوم واحد من سلطة الديكتاتور المطلق إلى نظام عاقل وصريح ويعمل بالقانون. وانتقل الاتحاد السوفياتي من نظام الرجل الواحد والحزب الواحد إلى نظام تمثيلي تمهيدي من دون قتيل واحد. ورمت الصين خلفها ثقافة الموت بالملايين من أجل أن تتساوى مع الآخرين في التمتع بثقافة العيش والحياة.
لماذا لا نستحق نحن إلا ذلك الخيار الجهنمي بين سرت تقلد ملك ملوك أفريقيا الصولجان المذهب، وبين سرت يدمرها الإرهاب شرفة شرفة وشارعاً شارعاً. مدينة أقيمت برمتها على حلم عبثي طفولي مناكف ومتشاوف، وتدمر، برمتها، في كابوس وحشي، ظلامي، عدمي لا ينتهي.
هل إن كل ما نريده، شيء من الأرُز؟ لقد أعطينا هذا الانطباع في مرحلة التسليم، وأعطيناه في مرحلة الانتفاض، أو «الثورات» التي خرجت بلا رؤية أو قيادة، فدمَّرت كل ما أمامها من دون أن تبني شيئاً. أجل، الإنسان العادي يترحم على حسني مبارك، وربما على زين العابدين بن علي، ويتساءل ماذا حدث لأحلامه بالحرية والتقدم؟ لقد غرقت مصر في الفوضى والديون، وصارت المجازر في تونس تُرتكب في المسابح. ولكن السؤال أيضاً ألم يكن في إمكان رجل دولة مثل مبارك أن يعين نائباً له ليقول للشعب المصري إنه لن يفرض عليه التوريث؟ أو ألم يكن في إمكان بن علي أن يمتنع عن طلب الحكم مدى الحياة، وأن يسلم أمانة تونس كما تسلمها من بورقيبة؟
ما نفع التساؤل وسط هذا الفيضان الدموي المتوحش؟ لكن أرجو ألا تُعتبر الحرية هي المسؤولة، أو حكم القانون. المسؤول هو الذي أورثنا ما نرى.