أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

الطائفية.. قانون برسم الخدمة

بعد قيام ثورة الخميني مستهل عام 1979، التي جاءت بحكم ثيوقراطي راديكالي، كان على عرّابها أن يؤمّن لها التمدد، بالتمهيد لتصدير مبادئها خارج إيران آيديولوجيًا أولاً ثم عسكريًا. الأوضاع العربية في تلك الفترة كانت متفاوتة؛ العراق المجاور لإيران اعتلى سدة حكمه صدام حسين، وباشر بحرب استنزاف معها دامت ثماني سنوات ثم حطت، وسوريا كان يحكمها الحليف حافظ الأسد، أما الخليج العربي، الهدف الكبير للخميني، فكان مستقرًا يتمتع بعلاقات قوية مع الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. في هذه الأجواء الهادئة لا تنمو الثورات، ولا تتمدد الآيديولوجيا الدخيلة. كان لبنان هو المرشح الأبرز للحضور الإيراني، فمن خلال الهيمنة عليه يمكن الوصول إلى فلسطين والأردن، ومع ضمانة الحزب الحاكم في سوريا يمكن محاصرة صدام حسين والخليج. لبنان بيئة مناسبة لأي دخيل، فالحرب الأهلية كانت مشتعلة بين الأجنحة العسكرية للأحزاب والطوائف منذ 1975، واجتياح إسرائيل في عام 1982 جاء ليعطي شرعية لأي فصيل للتدخل والمقاومة، ومن هنا نشأ «حزب الله» اللبناني، الذي انشقت قياداته الأولية عن حركة «أمل»، معلنًا أنه يستقي توجيهاته من ولاية الفقيه المتجسدة في شخص الخميني. ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا، لم يتحرر لبنان من هيمنة إيران، لا سياسيًا ولا أمنيًا.
في ظروف مشابهة، نشهد تشكل ميليشيا إيرانية جديدة تحت اسم «وحدات الحشد الشعبي» في العراق، البلد العربي الكبير والثري، وهو الغنيمة الجائزة التي يرى الإيرانيون أنهم يستحقونها بعدما نكل بهم صدام حسين، وأنفقوا الكثير في لبنان لتمكين «حزب الله». الظروف تكاد تكون متماثلة؛ الغطاء الشرعي حاضر يتمثل في استهداف «داعش»، الذي كان يقابله «إسرائيل» في الحالة اللبنانية، والتدخل الدولي موجود من خلال التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة وفرنسا. أيضًا المرجعية عامل مهم في الحالتين، في لبنان كان «حزب الله» تحت إمرة الخميني، وفي العراق المرجعية في النجف، أي السيستاني الذي نادى بالجهاد الكفائي بعد استيلاء «داعش» على الموصل في صيف عام 2014.
باختصار، الميليشيا الإيرانية تولد من رحم الفوضى. والحشد الشعبي في العراق هو الجناح العسكري الثاني لإيران بعد «حزب الله» الذي يرسي قواعده في المنطقة العربية، وتعمل إيران جاهدة لتمكين «أنصار الله» الحوثية في اليمن.
والثابت، أن إيران تجنبت دمج ممثليها في الفصائل العسكرية مع الجيوش النظامية في لبنان والعراق. في الحالة اللبنانية، ذكر الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، في إحدى خطبه، أن دمج سلاح المقاومة مع الجيش اللبناني سيؤدي إلى هلاك لبنان، لأن إسرائيل ستتعامل حينئذ مع سلاح المقاومة كسلاح للدولة وسيؤدي ذلك إلى حرب إسرائيلية كاسحة ضد لبنان. هذه الذريعة الركيكة انهارت أمام حرب 2006، حين شنت إسرائيل حربًا ضد لبنان، بسبب سلاح «حزب الله» المستقل عن الجيش. إيران لم تعتزم إنفاق أموالها ومقاتليها والموالين لها من العرب من أجل تقوية الجيوش العربية، الهدف عكس ذلك تمامًا، وهو محاولة خلق جيش يحمل ولاءً إيرانيًا بموازاة الجيوش الوطنية، لحماية البنية السياسية والشرعية للوجود الإيراني. كما أن طهران التي تستخدم لمخططاتها بعض الشيعة العرب الموالين، هي في واقع الأمر لا تثق بهم، خصوصًا مع وجود أصوات لبعض شيعة العراق ولبنان ضد الوجود الإيراني في بلدانهم.
في العراق، صوّت البرلمان قبل يومين على قانون «هيئة الحشد الشعبي»، التي تعطي ميليشيا الحشد غطاء قانونيًا وقيمة اجتماعية باعتباره شخصية معنوية. والحشد الشعبي الذي يتألف من نحو 70 فصيلاً، معظم عناصره من الشيعة، يتلقون تدريبًا ومشاركة من الحرس الثوري الإيراني، ومرجعية فصائله منقسمة ما بين خامنئي في إيران والسيستاني في النجف. أما ميزانيته المرصودة منذ نشأته، أي قبل إقرار البرلمان العراقي له ككيان، فكانت من خزينة الدولة العراقية.
رغم أن التركيبة الديموغرافية للعراق، فإن إيران، ولأهداف استراتيجية، لم تسمح بدمج فصائل الحشد الشعبي مع الجيش الوطني العراقي ولم تسمح بوجود محسوس للسنة في مكونات الحشد، كما طالب النواب السنة. ولإضفاء الصفة القانونية أعطى القانون الجديد هذه الميليشيا الاعتراف بها ضمن القوات المسلحة، تأتمر بأمر القائد العام وهو رئيس الوزراء، لكنها عمليًا ستبقى مستقلة عن بقية القوات العسكرية، شأنها في ذلك شأن «حزب الله» اللبناني الذي يوالي إيران علنًا، لكنه جزء من الحكومة اللبنانية..
العراقيون الذين يطالبون بحل «الحشد الشعبي» بعد انتهاء المعارك مع «داعش»، يفرطون في التفاؤل.. وحدات الحشد تشكيل عسكري ولد ليبقى ولا مدد لصلاحيته. ومشكلة الحشد، هي نفسها مشكلة «حزب الله»، أنه سلاح لضرب الخصوم الوطنيين السياسيين، مهما كلف الأمر. في لبنان تورط «حزب الله» في سلسلة من جرائم القتل، أبرزها اغتيال الراحل رفيق الحريري، ثم ورط لبنان في حرب مع إسرائيل في 2006، أعقبها باحتلال عناصره لبيروت في 2008. المنظمات الحقوقية الدولية ذكرت في تقارير لها أن الحشد الشعبي ارتكب أفعالاً محرمة ترقى لأن تكون جرائم حرب ضد المناطق السنية التي تحررت من «داعش»، ومنها ارتكاب عمليات قتل وحشية وحرق لمئات المنازل وتهجير أهلها.
سيطغى الحشد على الجيش العراقي الذي أوهنه نوري المالكي وأهانه في الموصل، ليكون تعزيز الحشد وتمكينه لوجيستيًا أمرًا وجوديًا يمس الأمن القومي يحل بديلاً عن الجيش المنهزم. أما السنة، الذين شهدنا دورهم الفاعل في طرد «القاعدة» من محافظة الأنبار في عام 2006، فتخلت عنهم واشنطن، وأصبحت مناطقهم ملاذًا وأوكارًا لعناصر «داعش»، وتفرق جمعهم ما بين الانضمام لجيش ضعيف آوى بعضهم، وبين الإذعان إكراهًا للتنظيم الإرهابي، أو الوقوع ضحيته.
الطائفية التي تعاني منطقة الشرق الأوسط من تبعاتها، أصبحت قانونًا نافذًا محميًا من الدولة العراقية، كثاني جناح عسكري لإيران في المنطقة، ولم يتبقَ على مشروع الهيمنة الإيرانية إلا اليمن، التي تقف السعودية حاجز صد ضد ترسية «أنصار الله» الحوثية الموالية لطهران على أراضيه. اليمن هو الحصن الأخير، ليس للمملكة فحسب، بل لكل العرب.