مصطفى فحص
كاتب وناشط سياسي لبناني. حاصل على الماجستير في الدراسات الإقليمية. خبير في السياسة الخارجية لروسيا بالشرق الأوسط. متابع للشأنين الإيراني والعراقي. وهو زميل سابق في «معهد العلاقات الدولية - موسكو (MGIMO)». رئيس «جائزة هاني فحص للحوار والتعددية».
TT

طهران والبكاء على أطلال أوباما

على الرغم من إتقانها ممارسة تقية سياسية، ساعدتها في أكثر من محطة تجنبت الإعلان عن موقفها النهائي من قضايا دولية حساسة، لها انعكاسات مباشرة على منطقة الشرق الأوسط، لم تستطع القيادة الإيرانية إخفاء رغبتها في فوز المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون في السباق الرئاسي الأميركي، فما أشيع عن رهان محور (موسكو، طهران، دمشق) عن وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بأنه سيبدل الأولويات الأميركية في التعاطي مع قضايا المنطقة، وسيعتمد حصر تحالفات واشنطن في المرحلة المقبلة بالحرب على الإرهاب، لم يكن ضمن حسابات طهران، التي كانت ترى فوز هيلاري كلينتون بمثابة ولاية ثالثة للرئيس بارك أوباما، ستحافظ فيها كلينتون على ما أسسه سلفها من علاقات مع إيران.
لقد استعدت طهران في حال فوز كلينتون إلى الأخذ بعين الاعتبار موقفها المتشدد من المسألة السورية، الذي سيختلف حتمًا عن موقف أوباما، حيث المواجهة المقبلة بالنسبة لفريق كلينتون ستكون مع موسكو في سوريا، وتستطيع طهران أن تتجنب خوضها إلى جانب الروس، وستحاول قدر الممكن الوقوف على الحياد، بانتظار أن تتبلور النتائج شبه النهائية لما كانت تنوي إدارة كلينتون فرضه على الروس، فرهان طهران كان على إمكانية أن تقبل كلينتون باحتفاظها بجزء من مصالحها في سوريا، حتى لو أدى ذلك إلى شرخ بينها وبين موسكو، فقيادة الكرملين تعلم جيدًا أنه ليس باستطاعتها التخلي عن الدور الإيراني في سوريا أو حتى التضييق عليه، فمن خلال انتشار ميليشياتها على الأرض تتجنب موسكو خطر الانزلاق الميداني في الحرب السورية.
ففي أول تعليق له على فوز ترامب بالرئاسة الأميركية، قال مرشد الثورة الإيرانية السيد علي خامنئي إنه غير مكترث بنتائج انتخاب ترامب وتسلم الجمهوريين الحكم في واشنطن، لكن مما لا شك فيه، أنه ومنذ اللحظة الأولى لإعلان فوز دونالد ترامب بالسباق الرئاسي في الولايات المتحدة، بدأت القيادة الإيرانية تستعد إلى ما هو أسوأ في علاقتها مع واشنطن بعد 20 يناير (كانون الثاني) 2017، موعد تسلم دونالد ترامب مفاتيح البيت الأبيض، فأغلب المقيمين الجدد فيه يجمعون على اعتبار أن بنود الاتفاق سمحت لإيران بالحفاظ على جزء كبير من مشروعها النووي، وفتحت أمامها الطريق لممارسة نفوذ إقليمي أكبر من حجمها، لكن الأخطر في مواقف الرافضين لهذا الاتفاق الذين باتوا الآن في صلب صنع القرار الأميركي، أنهم يجمعون على أنها من أكبر المصدرين للإرهاب، حيث غرد مرشح ترامب لتولي وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA)، بومبيو، قائلاً: «أتطلع لإلغاء هذا الاتفاق الكارثي مع أكبر دولة راعية للإرهاب في العالم». فقد باتت هذه التصريحات تثير المخاوف الإيرانية من قيام واشنطن مستقبلاً بتحرك أحادي الجانب يصعب التكهن بشكله أو حجمه، فسارعت إلى القيام بخطوات إيجابية تفاديًا لأي أزمة مع الإدارة الأميركية الجديدة ومع الدول الموقعة على الاتفاق النووي، وأعلنت أنها ستبدأ قريبًا جدًا في إخراج نحو 11 طنًا من الماء الثقيل الذي كانت تستخدمه في برنامجها النووي إلى سلطنة عمان، وعلى ما يبدو أن هذه الخطوة الإيرانية لنقل الفائض من الماء الثقيل، جاءت تحت ضغط قرار الكونغرس الأخير، الذي حظي بإجماع الحزبين والذي أقر بتمديد العقوبات الأميركية على إيران لعشر سنوات إضافية، كما تبعه في اليوم التالي قرار بمنع بيع إيران طائرات «البوينغ»، على الرغم من تهديد سكرتير مجلس الأمن القومي الإيراني، الأدميرال علي شماخاني، بالانسحاب من الاتفاق، حيث قال: «إن طهران ستعمل بخيارات فنية سريعة إذا نقض الطرف المقابل الاتفاق النووي».
في نهاية عهده، يسعى باراك أوباما إلى تمتين اتفاقه النووي مع إيران، كما نقلت صحيفة «وول ستريت جورنال»، كما سيحاول في المدة المتبقية له بالبيت الأبيض رفع ما يمكن من عقوبات عن طهران، بهدف تسهيل عمل الشركات الأميركية الكبرى داخل الأسواق الإيرانية، وهي خطوات تهدف إلى تعقيد وعود دونالد ترامب الانتخابية في إلغاء الاتفاق أو تعديله أو إضافة بنود عليه.
تدرك طهران جيدًا أن عهد الدلال الأميركي انتهى، فلا يمكنها بعد الحصول على شحنات من الأموال مهربة بطائرات أميركية وبغطاء من البيت الأبيض، ولم يعد باستطاعة جنرالاتها تحدي المجتمع الدولي بمزيد من التجارب الصاروخية، ولم يعد مسموحًا لميليشياتها بأن تطلق صواريخها تجاه القطع البحرية الأميركية، ولم يعد باستطاعة بحريتها اعتراض زورق حربي أميركي في مياه الخليج العربي، لأن التكهن بردات فعل القيادة الأميركية الجديدة التواقة إلى استعراض قوتها بات شبه مستحيل، ولم يعد أمامها إلا البكاء على أطلال أوباما الذي تحولت مدننا التاريخية بسبب تواطئه معها إلى أطلال.