عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

.. وتأتي الرياح بفرصة جديدة

من المثل الإنجليزي «الأفعال تفوق الأقوال بلاغة» إلى الحكمة الصينية «الأزمة فرصة تمتطي رياحًا خطرة»، مرورا بقول ألماني «عدو صريح أفضل من صديق مزيّف» وآخر إيطالي «لا تحكم أبدا على كتاب من غلافه»؛ أهديها لصناع الرأي العام ليضعوا الرئيس الأميركي القادم دونالد ترامب في الميزان مقابل خيارهم الخاسر.
باراك أوباما، الرئيس الذي يتناول مشروبه في صالون الرحيل في المطار السياسي، محام يجيد الخطابة مثل رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير الذي يمكنه بيع الثلج للإسكيمو ويقنعهم بأنهم رابحون.
عندما خطب في القاهرة، سحر المصريين والعرب والمسلمين، لكن ماذا كانت أفعاله عمليا، مقابل الرئيسين الجمهوريين جورج هربرت بوش الأب وبوش الابن، مرورا بأفعال سابقه الديمقراطي البليغ بيل كلينتون؟
إذا اتبعنا حكمة الأفعال والأقوال، فإن بوش الأب، مستعينا سياسيا بمهارة رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت ثاتشر، تحرك لدحر عدوان صدام حسين بتحالف من 77 بلدا لتحرير الكويت بعد أقل من سبعة أشهر من الاحتلال، وهي فترة قياسية في عالم الأزمات السياسية. وحتى بوش الابن - سواء اختلفت أو اتفقت مع تدخلاته وأخطاء التطبيق - فإنه كان رجل أفعال. ماذا فعل أوباما في أزمات فترة رئاسته؟ لا شيء غير الكلام، من سوريا إلى ليبيا. وحتى إذا حسب له اغتيال زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن (اغتيال لتعمد قتل الشقي بدلا من محاكمته) فهو تدارك لأخطاء أميركية سمحت بفراره وعصابته من أفغانستان أصلا بعد أن عطلت «سي آي إيه» القوات الخاصة البريطانية عن اعتقاله؛ مضيعة سويعات ثمينة في ديسمبر (كانون الأول) 2011.
وإذا أضفت حكمة العدو الصريح والصديق المزيف عند الخيار بين الرئيس الجمهوري المنتخب ترامب، والمرشحة المهزومة هيلاري كلينتون التي كانت استمرارا لسياسة أوباما، وكانت من صانعيها، لبدت الأمور أكثر وضوحا بالنسبة لبريطانيا والبلدان العربية والشمال الأفريقي.
حسب المثل الألماني فإن صراحة ترامب فضيلة، لكنها ورطة في ميزان من يعتبرون الرياء والزيف حنكة سياسية ومهارة عملية كمن يغلف البضاعة الرديئة في ورق مفضض.
بالنسبة للمصريين وبلدان كالأردن والإمارات، التي عانت من إرهاب جماعات راديكالية وجماعة الإخوان، كانت سياسة إدارة أوباما أثناء تولي السيدة كلينتون حقيبة الخارجية هي تمكين الجماعة من حكم مصر ومد نفوذها في البلدان العربية (حسب تقرير السفيرة الأميركية السابقة آن بترسون التي نشره ويكيليكس) ضمن سياسة هيمنة إسلام سياسي ككيان واحد على شمال أفريقيا والشرق الأوسط يمكن التعامل معه للتحكم في المنطقة.
إذا تأملت تجد العنصرية في مضمون سياسة أوباما: العرب المسلمون والأفارقة في بلدان أغلبيتها مسلمون، يجب أن تحكمهم أحزاب ومنظمات إسلامية ولا يستحقون أنظمة برلمانية ديمقراطية كالأوروبيين والأميركيين. هذه العنصرية أدانها الرئيس بوش الابن في خطابه في وست بوينت في مايو (أيار) 2002 بقوله: «إن للمسلمين في آسيا وأفريقيا الحقوق نفسها التي يتمتع بها المواطن الأميركي، بما فيها حق المطالبة بالديمقراطية والحرية مثلهم مثل الأميركيين».
سياسة أوباما الفعلية لم تقوِّ وتنشر نفوذ إيران فحسب، بل مكنتها من التكنولوجيا النووية وأفرجت عن ثروة هائلة كانت مجمدة بتوقيع اتفاقية لم يشارك في بحثها ومناقشتها أكثر الناس تعرضا للتهديد الإيراني (أي بلدان الخليج). بالمقابل ترامب بصراحته التي أتاحت الصحافة المؤيدة للديمقراطيين فرصة تشويه صورته، أعلن عزمه على إعادة النظر في الاتفاقية وتحجيم إيران وفروعها المسببة للمشاكل مثل «حزب الله».
أثبتت أقوال وأفعال أوباما أنه أكثر رؤساء أميركا المعاصرين معاداة لبريطانيا (الصديق التاريخي للعرب) وإضرارا بمصالحها. لمحت ذلك في خطاب تنصيبه حيث لم يجد من التاريخ إلا نموذج محاربة الأميركيين ضد «الاستعمار البريطاني» في القرن الثامن عشر. وأثناء استقبال رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون في 2010 في واشنطن، ألقى نكتة عن «إحراق القوات البريطانية للبيت الأبيض» (ردا على هجوم قوات الولايات المتحدة على بلدة يورك في أونتاريو في كندا التابعة للتاج البريطاني في يونيو/ حزيران 1812).
أوباما هدد بريطانيا بأنها «ستقف في آخر الطابور» إذا صوتت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، ومساء الخميس وصف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأنها «الصديق الأول لأميركا» وهي صفة تقليدية تصبغها واشنطن على زعماء بريطانيا. ثم دعم مرة أخرى المعسكر الذي يعمل على إضعاف موقف بريطانيا في التفاوض مع الاتحاد الأوروبي بقوله علنًا: «يجب أن تتسم بالشفافية» أي يريد من المفاوض البريطاني أن يكشف أوراقه أمام الخصم في اليوم نفسه الذي هدد فيه وزير الخارجية الألماني بتغريم بريطانيا مبالغ طائلة حتى 2030.
كما خرج عن التقاليد بإحراج خليفته بالإلحاح على فرض مزيد من العقوبات على روسيا، أي تصعيد توتر حرب باردة جديدة.
ترامب قال إن بريطانيا في أول الطابور، واتخذ تصويت الخروج من الاتحاد الأوروبي مصدر إلهام لحملته.
ورغم انتقاد السطحيين لترامب بسبب تصريحات تعبر عن الدفء تجاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإنه في الواقع أمر يدعو للاطمئنان، لأنه بصفته رجل أعمال واستثمارات يفضل السلام والإنفاق في المشاريع، على الإنفاق العسكري نتيجة التوتر السياسي.
وهنا نأتي إلى خطأ قد يرتكبه كثير من العرب بالحكم على كتاب لم يقرأوه بعدُ كانت الصحافة اليسارية صممت غلافه، وإذا لم يستوعبوا المثل الصيني عن الفرصة التي تتيحها، وهو ما يبدو أزمة.
فرصة تحجيم دور إيران، وسحب الدعم عن جماعة الإخوان ومحاصرة نفوذهم الضار سياسيا، وبالنسبة للخليج تحجيم الدور الإيراني. ولأن السياسة فن الممكن؛ فعلى العرب أيضا أن يعوا أولويات إدارة ترامب، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، وأهمها تصفية «داعش» والجماعات الإرهابية بالتنسيق الضروري مع الروس. ساحة المعركة الكبيرة ستكون سوريا، وهناك أولويات مختلفة للبلدان الأعضاء في الجامعة العربية، بشأن سوريا والتسوية فيها.
هناك أولويات مشتركة كرفع المعاناة الإنسانية وتصفية المنظمات الإرهابية، وهناك أولويات للروس (كالحفاظ على الوحدة الجغرافية السياسية لسوريا، وضمان استمرار قاعدتهم في طرطوس وفق أي تسوية).
أمام العرب ثلاثة أشهر لفك الارتباط العاطفي بإدارة أوباما، وانتهاز فرصة رئيس جديد اعتقد أنه سيسرع بإعادة رسم خرائط السياسة الخارجية، ومن الحكمة أن يشارك العرب في رسم هذه الخرائط بدلا من البقاء خارج الخطوط التي سيتم رسمها في الأشهر الـ18 المقبلة.