راجح الخوري
كاتب لبناني
TT

أي حبرٍ للصفحة الجديدة في لبنان؟

بين مجلس النواب اللبناني في وسط بيروت وقصر بعبدا مسافة نصف ساعة بالسيارة، هذه المدة كانت كافية عند علي أكبر ولايتي ووسائل الإعلام الإيرانية لمحاولة مصادرة العهد الجديد في لبنان، وهكذا قبل أن ينتقل الرئيس ميشال عون من البرلمان إلى المقر الرئاسي في بعبدا بعد إلقاء خطاب القسم، كانت إيران تتحدث عن الانتصار الذي حققته انطلاقًا من التحالف القائم بين «حزب الله» وعون.
لكن فحوى تصريحات ولايتي، وهو مستشار علي خامنئي في الشؤون الدولية، جاءت بمثابة الرد على خطاب القسم ودحض ما ورد فيه لجهة التأكيد على حياد لبنان، وكذلك السعي لمصادرة العهد الجديد وإلحاقه بمحور المقاومة، رغم كل التأكيدات التي سبقت انتخاب عون ثم وردت في خطابه، على أن هناك اتفاقًا على فتح «صفحة جديدة» جامعة على المستوى الوطني، وأن تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية يشكّل هدفًا جوهريًا متقدمًا سيسعى العهد الجديد إلى تحقيقه، من منطلق إدراكه أنه لا يريد أن يدير الأزمة المتفاقمة التي تعلك لبنان بل سيسعى إلى حل هذه الأزمة.
كان الكلام واضحًا في خطاب القسم الذي أبدى الكثيرون ارتياحًا إليه، فيما يتصل بالقول إن لبنان يسير بين الألغام لكنه لا يزال في منأى عن النيران المشتعلة من حوله، وأن العهد الجديد سيمنع وصول أي شرارة إليه، على قاعدة الالتزام بقرارات الجامعة العربية، وتبني سياسة خارجية تنأى بنفسها عن نيران المنطقة، وكل هذا من خلال العودة إلى روح الوحدة الوطنية في إطار من التفاهم والانفتاح وسد الثغرات التي قد تنفذ منها سموم الفتنة والتشرذم والتشنج والفوضى.
لكن التركيز عند ولايتي والصحف الإيرانية ذهب في اتجاه تصنيف الرئيس الجديد في محور المقاومة، وأكثر من هذا اعتبر ولايتي أن انتخاب عون سيؤثر على القضية السورية «بسبب دوره الإيجابي في دعم جبهة المقاومة في سوريا»، لكنه لم يقدّم التهنئة مباشرة لا إلى اللبنانيين ولا إلى الرئيس المنتخب، اكتفى بتهنئة السيد حسن نصر الله، قائلاً إن رؤية المقاومة ونصر الله انتصرت بعد ثلاثين شهرًا من الصراع بين القوى المؤثرة في لبنان، وفي هذا الكلام اعتراف ضمني واضح بأن إيران هي التي عملت على تعطيل الانتخاب الرئاسي مدة عامين ونصف العام وشلّت الدولة ومؤسساتها، على خلفية تمسك «حزب الله» بعون الذي يكاد ولايتي يعتبره جنرالاً في الحرس الثوري الإيراني!
لقد حاولت طهران على امتداد الفترة السابقة أن تتهم المملكة العربية السعودية بالتعطيل، لكن ها هو ولايتي يعترف صراحة بأن تمسك طهران و«حزب الله» بعون هو الذي انتصر في النهاية، بمعنى أنهم هم الذين عطلوا الاستحقاق ثلاثين شهرًا، في حين حرصت السعودية دائمًا إلى دعوة اللبنانيين إلى انتخاب الرئيس فورًا، مؤكدة أنها تقف عند شعارها الثابت، أي أنها تقف على مسافة من الجميع ولا تتدخل في الشأن الانتخابي اللبناني، وأنها تبارك ما يتفق عليه اللبنانيون.
وهكذا جاء اتصال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بالرئيس عون مساء الثلاثاء الماضي للتهنئة بانتخابه وتأكيد وقوف المملكة العربية السعودية مع لبنان ووحدته، «متمنيًا له التوفيق وللجمهورية اللبنانية وشعب لبنان الشقيق الرخاء والاستقرار»، ليؤكد موقف الرياض الحريص على أمن لبنان واستقراره ومباركة ما يقرره اللبنانيون.
على خلفية كل هذا جاءت الزيارة المهمة التي كان قد قام بها وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان إلى لبنان قبل أيام من انتخاب عون، حيث التقى كل القيادات السياسية والروحية، مؤكدًا الموقف السعودي الذي يشجع ويحثّ ويدعو إلى انتخاب الرئيس العتيد بسرعة لكنه لا يوحي أو يتدخل، مما زاد في أهمية هذه الجولة أنها جاءت بعدما كان الرئيس سعد الحريري قد أعلن تأييده ترشيح عون للرئاسة، وهو ما أثار كثيرًا من التحليلات المغرضة.
في اعتقادي أنه عندما تحاول طهران تصوير انتخاب عون رئيسًا للجمهورية، على أنه يمثّل انتصارًا لها وللنظام السوري و«حزب الله»، وخسارة للسعودية، فإنها تسعى ضمنًا إلى تشويه ومسح كل ما قاله عون في خطاب القسم الذي سمعه العالم، وخصوصًا لجهة تأكيده القوي على ضرورة احترام روح الدستور والميثاق، بما يعني عمليًا التمسك باتفاق الطائف.
ثم إنه كان واضحًا في دعوته إلى الابتعاد عن الصراعات الخارجية وإلى الالتزام بميثاق الجامعة العربية وبشكل خاص المادة الثامنة منه التي تمنع التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، خلاف العربدة الإيرانية في طول المنطقة وعرضها والتي جعلت ولايتي يصنّف لبنان في محور دول المقاومة التي تديرها طهران.
ليس من الواضح كيف يستقيم كلام ولايتي عندما يقول إن انتخاب عون يمثل دعمًا جديًا لتيار المقاومة وأصدقاء إيران، بينما كان الرئيس المنتخب يتعهّد في خطاب القسم باعتماد سياسة خارجية مستقلة تقوم على مصلحة لبنان العليا واحترام القانون الدولي، وذلك حفاظًا على الوطن واحة سلام واستقرار وتلاقٍ.
هل من المبالغة القول إن طهران تستعجل محاولة إقامة الوصاية على العهد الجديد في لبنان من خلال مسح كل ما ورد في خطاب القسم، في محاولة لربطه بما سماه ولايتي سلسلة المقاومة التي تبدأ من إيران وتشمل العراق وسوريا واليمن وفلسطين، تماشيًا مع تصريحات قادة الحرس الثوري عن أن إيران باتت تسيطر على أربع عواصم عربية بينها بيروت؟
كل ما جاء في خطاب القسم يشكّل عنوانًا وجد فيه الكثيرون منعطفًا يؤكد أن عون ذاهب إلى فتح الصفحة الجديدة التي تحدث عنها هو وسعد الحريري، وخصوصًا أنها تشكّل مطلبًا وطنيًا جامعًا ثم أنها تستجيب الرغبة الدولية الشاملة، التي عبر عنها البيان المهم الصادر عن مجلس الأمن الذي حضّ الزعماء اللبنانيين على البناء على انتخاب ميشال عون رئيسًا للجمهورية للإسراع في تشكيل حكومة وحدة وطنية والاستعداد لإجراء الانتخابات النيابية في موعدها في مايو (أيار) المقبل.
لكن الرسالة الأهم إلى العهد الجديد واللبنانيين، جاءت في البيان الدولي الذي طالب كل الأطراف في لبنان بإعادة الالتزام بسياسة النأي بالنفس والامتناع عن أي تورط في الأزمة السورية بما يتفق مع «إعلان بعبدا»، الذي وافق عليه الجميع ثم تنكّر له «حزب الله».
والسؤال في ضوء كل هذا، كيف سيكتب العهد «الصفحة الجديدة» التي وعد بها، وبأي حبر وأي إنشاء سياسي، بالحبر الفارسي الذي يريد لبنان ملحقًا في المنظومة الإيرانية وهذا لن يحصل، أم بالحبر العربي الذي يريد لبنان سيدًا حرًا مستقلاً كما يطالب مجلس الأمن؟