سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

ما يبقى وما يسقط

ذكرت مرات كثيرة أنني أعود لفترة كل عام إلى قراءة بعض ما قرأته في الماضي من رواية أو شعر أو نثر أو تأريخ. وكنت أقول دائمًا إن في إعادة القراءة متعة أعمق بكثير من القراءات الأولى. فعندما نكبر أكثر، ونزداد نضوجًا ومعرفة، يصبح تقديرنا للمواد الأدبية أكثر قيمة وموضوعية. غير أنه تبين لي في السنوات الأخيرة والاستعادات، أن بعض الأعمال الكبرى يفقد من جُذوَتِه مع مرور الأيام. وما كان يبدو لنا تُحفة أدبية جذّابة في سن معينة ومرحلة ثقافية معينة، قد يبدو اليوم عملاً غير مقروء. الأمثلة على ذلك كثيرة في بعض أعمال جبران خليل جبران. ورغم الكثير مما يبقى من أعمال يوسف إدريس ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وسائر الجبابرة، فإن بعض الإنتاج يبدو وقد ذهب مع زمنه ولم يعد يعني شيئًا لقارئ اليوم. حتى الكلاسيكيات العظيمة في الأدب اليوناني، أو الروسي، يبدو بعضها الآن بعيدًا في زمنه. لكن هذا لا يغير القاعدة العامة حول العالم أجمع. فكلما قرأت مقابلة مع أديب من أدباء الغرب الحاليين، أجد أنهم جميعًا لا يزالون يحرصون على قراءة الكلاسيكيات. ويفاجئك أديب يقول إنه يأخذ معه إلى وحدته أعمال شوسر. وآخر يقول إنه لا يزال يتعلم من ثلاثة أرباع الروايات التي تركها تشارلز ديكنز. أو تقرأ لآخر يقول إنه لا يزال يستنبع من ملاحم هوميروس، كما قال الشاعر المغني بوب ديلان بعد فوزه بجائزة نوبل للآداب. ثمة جناح للكتب الرائعة في كل مكتبة منزلية. فإذا كنت إلى أي رفّ من رفوفها في أي وقت من الأوقات، أو أي مزاج من الأمزجة، تعود إلى مقعدك ومعك جليسك. القراءة تشبه الإنسان، أو بالأحرى تشابهه. نحن لا نستطيع قراءة الشعر مهما كان جميلاً في أكثر الأحيان. ومع أن أكثرنا لا يزال يتمتع بقراءة أحمد شوقي على مر السنين، فقد ابتعدت الذاكرة والذائقة كثيرًا عن مناخ رفيقه ومعاصره حافظ إبراهيم. وحتى إذ نعود إلى شعر نزار قباني الذي طغى على الذائقة العربية طوال العقود الماضية، نجد أحيانًا أننا قد بعدنا عن بعض ما أعطى، أو هو من بَعدَ. قليلة هي الأشياء التي تُكتب لكل العصور وكل الأذواق وكل المراحل، وعندما نعود إلى الروائيين الذين فازوا بنوبل الآداب، نجد أن أعمال الكثيرين منهم لم تعد في التداول، أو البقاء، وهذا لا يعني التقليل من أهميتها الأدبية بقدر ما يعني طغيان المتحولات البشرية وتأثيرها في تنوع المذاهب الأدبية.
ماذا تعني بالكلاسيكيات؟
لعل أقرب توصيف لها، هي أنها الأعمال التي كلما قرأها، خُيّل ظن أنه يقرأها للمرة الأولى. وقد قال أحد كتاب مجلة «المقتطف» قبل مائة عام، إنك لا تستطيع أن تجلس في ساحة البيكاديلي وتردد لنفسك مطلع امرؤ القيس الشهير: «قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل». لكن في الساحة نفسها سيخطر لك أنه لم يتغير شيء على قول المتنبي: «بذا قضت الأيام ما بين أهلها / مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد».
وقد تبدو لك رواية «دعاء الكَرَوان» الآن شيئًا من رومانسيات الماضي، لأن الذي تعرضت له بطلتها من محن، أصبح من يوميات الجرائد، ولم يعد حدثًا اجتماعيًا مستفظعًا. هكذا، ربما من قراءات طه حسين، ما زاوله الزمن وزاولته الأيام، لكن يبقى الكثير منه، لا يمر عليه تقادم ولا يغيره مزاج، ذلك هو الجزء الكلاسيكي من كل عبقري يبقى منه ما يبقى، ويسقط منه ما يسقط.