فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

أوبرا في الخليج.. مسرحة الوجود وتحوّلات التاريخ!

على مقربةٍ من «برج خليفة» رصّعت جوهرة «دار الأوبرا» في دبي، من تصميم المكتب الهندسي البريطاني «أتكنز»، ومن إبداع المهندس جانوس روستوك، حين دلفتُ لأوّل مرة رأيت صديقًا أكاديميًا سبق أن عاتبني على مقالةٍ كتبتها قبل ثمانٍ بعنوان: «قد يأتي النور من الخليج» كانت حول تجربة دبي الرائدة، تبيّن أنه أقام في دبي وانتقل إلى العمل بها. المبنى الكلاسيكي المجهّز بأحدث التقنيات السمعية والبصرية يعيدك إلى الأفلام الكلاسيكية القديمة؛ نزعة من الأصالة، مع حيويّة فنيّة تذكّرك بمقولة فورجاك: «الأوبرا هي المجتمع كله مجسّدًا على المسرح في دراما بصريّة وسمعية». مبنى يحاكي فكرة الأوبرا حيث التعاضد بين الموسيقى والدراما في جذورها الإغريقية، إذ يبدو العالم كله مسرحًا، والأحداث قصصًا درامية، والعواطف تنطق شعرًا بألوان الحبر والدم، تعيدك إلى أوائل المسرحيين الإغريق من مثل سوفليكس، وبوربيديس، وإيسخوليس، إلى جذور الموسيقى المسرحية، حيث الوجود كله مسرح، والإنسان على المنصّة كائن يبكي أو يرقص.
بالتزامن مع أوبرا دبي، افتتحت دار أوبرا خليجية أخرى في الكويت، هذه الصروح الثقافية والفنيّة تعكس مستوى الإرادة الاجتماعية الراغبة في الاستقرار السياسي. بنيت أول دار أوبرا في البندقيّة عام 1637، بينما أوبرا هامبورغ في ألمانيا بنيت عام 1678. تتنازع الأوبرا بين الموسيقي والدرامي تبعًا لتطوّر المجتمعات وتغيّر العصور. الراصد المهم لتاريخ الأوبرا نذير جزماتي يذكر في كتابه المرجعي «الأوبرا» أن «المغنّين والملحنين وباقي الأوبراليين الإيطاليين الذين حملوا فنّهم إلى مختلف بقاع أوروبا، وعاشوا عصرهم الذهبي في القرن السابع عشر، يقدمون الجانب الموسيقي في الأوبرا على الجانب الدرامي، ووقف على رأس هذه المدرسة الساندرو سكارلاتي، فقاد كريستوف ويليبالد فون غلوك (1714 - 1787) الثورة الثانية في تاريخ الأوبرا، حيث أحدث التوازن عام 1762 بين الموسيقى والدراما، ويعتبر غلوك الأب الطبيعي لمدرسة فيردي، فاغنر، ديبوس، التي لا مثيل لها في عالم الأوبرا، ومع انفجار الأحداث الفرنسية الكبرى في أواخر القرن الثامن عشر أخذت المواضيع القومية والرومانسية تحلّ محلّ المواضيع العامة في الساحة الدرامية، وأخذت الموسيقى تنهل من الينابيع الشعبية، فاعتبر موتزارت ممثلاً لروح جان جاك روسو، بينما بيتهوفن وروسيني ودونيزيني، ثوارًا بمعنى الكلمة».
دُور الأوبرا ليست مستودعًا للإلقاء، أو منصةً للترفيه، أو حاويةً للمعزوفات فحسب، بل تشكّل الوعي، وترسم الحوارات الفكرية السياسية، وتؤسس للنظرة المجتمعية للواقع والعالم، وهي ليست منفصلةً عن الشعبيات، نتذكر إسهام أسطورة الأوبرا بافاروتي الذي غنّى الفنون الشعبية والأوبرا على حدٍ سواء، بل استطاع نشر الأوبرا شعبيًا في إيطاليا وأوروبا والولايات المتحدة منطلقًا من أدائه الاستثنائي. من هنا تغرس الأوبرا مفاهيم جديدة باعتبارها خلقًا مسرحيًا، وتكوينًا حواريًا، وفضاء وجوديًا، وتحايث الأوبرا حادثات الزمان، وتغيّر وتتغير باعتبارات المكان، فهي جزء من الحوار الأبدي بين الإنسان والوجود، وقد ترفع من مستويات التغيير الخفيّ، عبر الأفكار المخترقة والمتسللة إلى الأذهان، وعلى حد تعبير نيتشه فإن «الكلمات الأكثر هدوءًا هي التي تستدرج قدوم الإعصار، وإن كلمات تتقدم على أرجل حمام لهي التي توجه العالم».
جُمل الموسيقى، وصروح الأوبرا، والمسرحة الفنيّة كلها تحتضن تاريخ الشعوب. في ألمانيا وشمت الحروب في الموسيقى، وأثرت الصراعات وعاتيات الأحداث على «الأثر الفني»، وقد استخدم نيتشه الموسيقى الألمانية لنقد التاريخ وضربه بمطرقة «الجينالوجيا» العتيدة حين يتحدّث عن النفس الأوروبية والموسيقى الألمانية في شذرة 245 من كتابه: «ما وراء الخير والشر»، متسائلاً: «أين الأيام الخوالي المجيدة، صداها خفت مع موتزارت وموسيقاه، كم نحن سعداء الحظ لأن الروكوك ما زال يكلّمنا، ولأن لطف صحبته، وحماسة الجنون، والطُرف الصينية والزخرفة، ولأن لطافة قلبه، وإيمانه بالجنوب وتوقه إلى الرقّة والحب والرقص والتشبيب ما زال له أن يناجي بقيّة باقيةً فينا، واأسفاه إذ عاجلاً أم آجلاً، ولكن من يراوده الشكّ بأننا، في القريب العاجل، سنكفّ عن تذوق بيتهوفن، وفهمه، وهو لم يكن سوى الرنين الأخير لموسيقى في طور الانتقال ولقطع أسلوبي، ولم يكن مثل موتزارت فصلاً ختاميًا لذوق أوروبي ساد طوال قرون. إن بيتهوفن هو حدثٌ بيْن بين، يجمع بين نفس عجوزٍ واهنة، تنكسر باستمرار، ونفسٍ آتيةٍ مفرطةٍ في الفتوة لا تنفك تأتي، موسيقاه تخيّم بين ثنائية نورٍ ينبئ بهلاكٍ أبدي، وأمل خالد جامح».
تحاور الأوبرا، والمعزوفات الموسيقية، غياهب التاريخ، والقطع الموسيقية توثق بصمتها وقائع سياسية، وثورات استثنائية، وحمم بركانية، هي عناوين على القطائع التاريخية، والذروات السياسية، والانفجارات الشعبية. إن الأوبرا في دبي والكويت هي «النور» والنور قد يأتي من الخليج، بل أتى بالفعل منه.
في أوبرا ريتشارد فاغنر Tristan und Isolde: «إذا وجدت باخرةً، فما عليك إلا أن تغيّر اللحن الحزين إلى لحنٍ مفرح».