خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من ظرفاء السياسة الفرنسية: هنري الرابع أيضًا

كنت قد أشرت إلى روح التواضع والشعبية للملك هنري الرابع، ملك فرنسا في القرن السابع عشر، وكذلك جنوحه إلى التفكير العقلاني، بالإضافة لظرفه وسخريته. فمن تواضعه يسرد الفرنسيون حكايته مع راعية بقر.
كان سائرًا مع حاشيته وأصحابه في أقاصي الريف الفرنسي، عندما لاحظ امرأة فلاحة تقود بضع بقرات، سعى إليها وعاين ماشيتها ثم أشار إلى بقرة معينة وسألها عن ثمنها، فذكرت له مبلغا، فأجابها قائلا: إنك تبالغين بثمن بقرتك، فهي لا تستحق أكثر من كذا من الفرنكات. قالت: لا بل هذا هو ثمنها كما أعرفه جيدًا ولن أقبل بأقل منه. وأنت ابن مدينة لا علم لك بالبقر والماشية.
عاد وقال لها: لا علم لي بالبقر تقولين؟ إنك تخطئين تمامًا. انظري لكل هذه العجول والثيران التي تجري ورائي. وأشار بيده إلى حاشيته وضباطه.
وفي مناسبة أخرى، تقدم إليه أحد الضباط يطالب بترقية وقال للملك: مولاي لدي كلمتان فقط أود أن أقولهما لجلالتك: ترقية أو إجازة. فأجابه الملك هنري الرابع وقال: أيها الضابط خذ مني أربع كلمات جوابًا: لا هذا ولا ذاك.
وعلى هذا المنوال تعامل مع ضابط آخر من الحرس الملكي تقدم إليه ضارعًا بأن يصدر عفوًا ملكيًا عن ابن أخ له ارتكب جريمة قتل، فأجابه الملك قائلاً: «يؤسفني تمامًا أن لا سبيل لذلك. ليس بوسعي أن أتدخل في موضوع كهذا. ولكن من الجميل أن تكون أنت عم ذلك الشاب القاتل وأنا ذلك الملك. أنا أعذرك على طلبك. وأنت اعذرني على رفضي».
ذكرت أولا كيف كان هنري الرابع ملكًا شعبيًا متواضعًا. كثيرًا ما جره ذلك للمحاككة مع الجمهور من بسطاء الناس. حدث أن تجمع القوم حوله يزاحمونه بطلباتهم ومشكلاتهم وشكاواهم في ضجة من الكلام والصياح، وإذ بأحد الحمير المربوط في زاوية من الطريق ينفجر بالنهيق عاليًا. فالتفت الملك للجمهور وقال مشيرًا للحمار: قليلاً من الهدوء أيها السادة. دعوا كل واحد يقول كلمته ويطرح ما في جعبته!
وفي يوم آخر اقتضى على الملك أن يقدم أحد كبار جنرالاته، المارشال دو بيرون إلى الكاردينال الدو برانديني، فقال: «سيدي الكاردينال، دعني أقدم لكم المارشال دو بيرون. وأنا أقدمه بكل طيب خاطر إلى أصدقائي وإلى أعدائي على السواء».
وهكذا كان هنري الرابع ملكًا تتدفق الكلمات الظريفة والحكيمة من لسانه في كل المواقف ومع سائر الطبقات من الناس، فأصبح دون أي شك واحدًا من ظرفاء الملوك والساسة عبر العصور.