خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من ظرفاء السياسة الفرنسية عود لهنري الرابع

كان عصر فرنسا في القرنين السادس عشر والسابع عشر كعصرنا هذا في بلادنا الإسلامية؛ منازعات طائفية في كل مكان. حاول الملك هنري الرابع رتق هذه الخلافات والمنازعات بين الكاثوليك والهوغونوت، بما أسفر كثيرًا عن سفك الدماء. حاول ذلك بإغداق العطايا والامتيازات على قياداتهم، مما أثار حنق وزرائه وحاشيته، وعلى رأسهم الوزير دوبينييه. وكما قلت في مقالتي السابقة، كان هنري الرابع ملكًا متواضعًا جدًا. ترك وزيره هذا لينام في الغرفة المجاورة له. ودخل هذا في أحلام وكوابيس مخيفة جعلته ينطق في منامه بشتى الأمور، ومنها التهجم على صديقه الملك: «أجل إنه أكثر القوم عقوقًا»!
سمعه الملك الذي لم يكن نائمًا مثله. فأفاقه من نومه: ماذا كنت تقول؟ فأجابه بغير ما قال، فاستغرق الملك بالضحك. وكانت الرشوات والاختلاسات من خزانة الدولة شيئًا شائعًا، كما هو الحال بيننا في أكثر الدول العربية. حدث أن هنري الرابع كان يلعب الكرة مع أصحابه، وكسب منهم أربعمائة فرنك، فوضع الفرنكات في قبعته حالما انتهى اللعب. قال لأصحابه بصوت عالٍ: سأحرص على سلامة هذه النقود التي كسبتها قبل أن تصل إليها أيادي موظفي الدولة ويسرقوها مني.
اجتاحت فرنسا موجة برد قارس في زمنه. قال أحد وزرائه إنه عندما استفاق صباحًا وجد شواربه متجمدة تمامًا كقطعة من الثلج. سمع بذلك الملك، فعلق على ذلك قائلاً: «لا بد أن السيد الوزير كان مضطجعًا بجانب زوجته»!
الظاهر أن هنري الرابع كان يستمد ظرفه من عقلانيته، كما نستشف عندما رُزق بولد في مطلع القرن السابع عشر. وأسرع المنجمون والفلكيون على عادتهم لحساب مستقبل ولي العهد، بواسطة الأبراج الفلكية، وتضاربت نبوءاتهم. سمع بمطالعاتهم الوالد فقال: «إنهم يكذبون كثيرًا، ولكنهم سيدركون كل شيء بشأنه عندما يكبر ويعرفون الحقيقة».
تمردت مدينة شارتر في عهده، فسار إليها على رأس جيشه، وسلط حمم مدافعه عليها. ما لبثت أن استسلمت، فخرج أعيان المدينة وفي مقدمتهم أسقف الكنيسة الشهيرة وقدموا له الأمان والطاعة. تكلم الأسقف وقال: إن هذه المدينة شارتر تعرب عن طاعتها وولائها واعترافها بكم ملكًا عليها بموجب الحق الإلهي والحق الروماني. تضايق الملك من ديباجته وكلامه، فقاطع كلامه وأضاف: وبموجب الحق المدفعي! ووكز حصانه وسار.
واجه هنري الرابع موقفًا مشابهًا عندما مر بمدينة إفيان فخرج إليه وجهاؤها يرحبون به، وكان التعب قد استولى عليه. انطلق رئيس القوم يرحب بالملك في خطبة رنانة يقول فيها: أيها الملك العظيم، الكثير الحلم، الفائق النبل، الكريم النفس...
لم يطق الملك غير أن يقاطعه ويقول: «أضف إلى ذلك وقل: الشديد التعب. أعطني فرصة لأستريح ثم أكمل خطابك هذا واطرح علي مطالب مدينتكم».