عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

الفشل الذي يهدد معركة الموصل

معركة «تحرير» الموصل التي انطلقت أخيرًا بعد تحضيرات طويلة، وجدل واسع، ومشاحنات سياسية ضارية، يجري تصويرها على أنها «أم المعارك» ونهاية وجود «داعش» في العراق. فقد انطلقت الحملة العسكرية في ظل زخم إعلامي كبير، وأعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي اقتراب «لحظة الانتصار الكبير»، متعهدا بأن يكون عام 2016 «عام الخلاص من الإرهاب ومن تنظيم داعش». كذلك عبر الرئيس الأميركي باراك أوباما عن ثقته بهزيمة التنظيم وإخراجه من آخر معاقله الكبرى بالعراق، معتبرًا المعركة خطوة أخرى مهمة في سكة التدمير المحتوم لما يسمى «الدولة الإسلامية».
الواقع أن معركة الموصل على أهميتها، لا تعني نهاية «داعش»، ولا تعني أن التنظيم لن يعود إلى العراق تحت راية دولته الإسلامية المزعومة أو تحت اسم جديد وراية مختلفة. فحركات الإرهاب اليوم مثل الفطريات، ما إن تجتث حتى تظهر من جديد في ذات المكان أو في مكان آخر. و«داعش» ذاته نشأ في العراق على أنقاض «القاعدة»، مستغلاً ظروف ما بعد الغزو، وأجواء الفوضى السياسية، والتناحر، والنفخ في الطائفية. وبما أن الظروف لم تختلف كثيرًا منذ ظهور التنظيم، وتغلغله من العراق إلى سوريا، ثم إعلانه دولة خلافته المزعومة مع سيطرته على المدينة في يونيو (حزيران) 2014، فإن البيئة تبقى مواتية لنمو حركات التطرف والإرهاب، بغض النظر عن المسميات والرايات.
«داعش» بكل المقاييس المنطقية ليس سبب كل أمراض العراق، بل هو نتاج لها. لذا فإن القضاء على وجوده في محافظة نينوى بعد الأنبار، لا يعني أن مشكلات العراق قد انتهت، وأن الاستقرار سيعم، والوئام سيعود إلى البلد الذي لم يعرف سلامًا حقيقيًا أو استقرارًا منذ حرب عام 2003، بل منذ غزو الكويت عام 1990، وقد يقول البعض منذ الحرب العراقية - الإيرانية عام 1980.
منذ البداية كان سقوط المدينة في أيدي «داعش» قبل أكثر من عامين، مدعاة لتساؤلات لا تزال قائمة، وتلقي بظلالها اليوم على معركة التحرير. قيل يومذاك إن المؤامرات والمماحكات السياسية والطائفية، أدت إلى «تسليم» ثاني أكبر مدن العراق بعد انسحاب أكثر من 40 ألفًا من القوات العراقية أمام بضع مئات من مقاتلي «داعش» دون قتال يذكر. تلك الأجواء جعلت المدينة تبقى تحت سيطرة ما يسمى «الدولة الإسلامية» لأكثر من عامين. واليوم يتقدم أكثر من 35 ألفًا من قوات الجيش والشرطة والبيشمركة و«الحشد الشعبي» لطرد نحو أربعة آلاف من مقاتلي «داعش»، بينما أجواء الخلافات السياسية والطائفية الداخلية والصراعات الإقليمية تلقي بظلالها على الحملة العسكرية، ونتائجها على المديين القريب والبعيد.
العبادي اضطر في إعلانه عن بدء عملية الموصل إلى محاولة تطمين السكان السنة القلقين من مشاركة ميليشيا «الحشد الشعبي» في الحملة، قائلاً إن القوات التي ستدخل المدينة «هي الجيش العراقي والشرطة الوطنية حصرًا». فليس سرًا أن جهات كثيرة حذرت من دخول ميليشيا «الحشد الشعبي» إلى المدينة ذات الأغلبية السنية، خصوصًا بعد ما ارتكبته هذه القوات من ممارسات في حملات سابقة.
الحكومة في بغداد دخلت أيضًا في شد وجذب مع الأكراد ومع واشنطن بشأن مشاركة البيشمركة في العملية والدعم العسكري الذي وفرته دول غربية بما فيها الولايات المتحدة لهذه القوات. فهناك أطراف في بغداد أرادت منع مشاركة البيشمركة، وعندما فشل الأمر أصرت حكومة العبادي على أن هذه القوات يجب أن تنسحب من محافظة نينوى بعد تحرير الموصل.
الأكراد من جهتهم وضعوا شروطهم وحددوا مطالبهم ثمنا لمشاركتهم في الحملة، ملمحين إلى أن موافقتهم على الانسحاب من الموصل بعد تحريرها لا يعني انسحابهم من مناطق أخرى حرروها في نينوى، وذلك إلى حين استتباب الأمن والاستقرار في المحافظة التي يعتبرونها مهمة لأمنهم لقربها من عاصمتهم أربيل ولوجود أقلية كردية فيها. كذلك أعلن مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان أنهم يريدون اتفاقًا سياسيًا بشأن إدارة مدنية في الموصل تمثل فيها كل الأقليات الإثنية والدينية، إضافة إلى بحث مسألة حماية هذه الأقليات مناطقها.
من جانب آخر، دفعت تركيا بقوات إلى داخل العراق تعبيرًا عن قلقها من مشاركة الأكراد في معارك تحرير الموصل، وكذلك من مشاركة ميليشيا «الحشد الشعبي» المدعومة من إيران. ودخلت أنقرة في اشتباك كلامي مع حكومة العبادي قائلة إن قواتها ستبقى في العراق لمحاربة «داعش»، ولضمان عدم حدوث «تغيير قسري» للتركيبة السكانية في الموصل بتهجير سكانها تحت غطاء حرب تحريرها.
معركة تحرير الموصل، رغم الزخم الإعلامي الذي أحيط بها، وتصويرها على أنها علامة فارقة للعراق وللحرب ضد الإرهاب فيه، فإنها تخفي تحت ثناياها معارك كثيرة لا تقل أهمية وخطورة، وتكمن فيها خلافات سيترتب عليها كثير للعراق وللمنطقة ولحرب الإرهاب التي لا يبدو أنها ستنتهي في أجل منظور.