إميل أمين
كاتب مصري
TT

الرئاسية الأميركية.. واقتراع الهويات المذهبية

هل تلعب مسألة الهوية الدينية أو المذهبية دورًا ما في حسم الانتخابات الرئاسية الأميركية لصالح مرشح بعينه، وقطع الطريق إلى البيت الأبيض على مرشح آخر؟ وإذا كان ذلك كذلك فأي تضاد ينشأ بين هوية أميركا العلمانية دستوريًا وإغراقها في الهوى الديني واقعيًا؟
الجواب، ولا شك، يتطلب منا أن نتوقف عند ثلاث جبهات نضال فكرية إن جاز التعبير؛ الأولى هي الكتلة المسيحية التي تمثل الأغلبية العظمى من الأميركيين، بطوائفها المتباينة الإنجيلية، والبروتستانتية، والكاثوليكية.
ثم الصوت اليهودي التقليدي في البلاد، الذي يتجاوز تأثيره أعداد مؤيديه، والأفضل بل الأصوب تسميته الصوت المؤيد لدولة إسرائيل، حيث إن كثيرًا من الكتلة الأولى يدعم هذا الاتجاه.
وثالثًا صوت المسلمين من الأميركيين الأفارقة الأصليين أو الجاليات، وقد كان الإسلام والحديث عن أتباعه محركًا عريضًا للجدل طوال الأشهر الماضية.
في تصريح لا تنقصه الصراحة، يتحدث غريغ سميث مساعد مدير معهد «بيو» للأبحاث في واشنطن، موضحًا أن نحو 45 في المائة من أولئك المتدينين، سوف يصوتون لترامب نكاية في المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، والحافز الأساسي لمناهضة ترشيحها هو آلية تفكير القطاع المتدين في رؤيته للدورة الانتخابية الراهنة.
هل نجحت حملة ترامب في العزف على أوتار فئات المتدينين المسيحيين الأميركيين عامة والإنجيليين خاصة، لا سيما مع إعلاناته المتتالية عن عزمه إلغاء التشريع المتعلق بتقييد رجال الدين عن ممارسة السياسة، الذي يُعرف بـ«تعديل جونسون» في القانون الأميركي؟
استطلاع آخر أجراه مركز «بيو» في شهر يونيو (حزيران) الماضي جاءت نتيجته لتؤكد أن هناك تناميًا ظاهرًا لترامب بين صفوف المسيحيين الإنجيليين خاصة، والتيارات المعروفة باسم Wasp أي البروتستانت الأنغلوساكسون عامة، وعليه، فإنه من المتوقع أن يصوت 78 في المائة من تلك الفئة لترامب، الذي راهن على مخاوف الأميركيين الدينية، مما يؤكد أن المعتقد والمسألة الدينية بات لهما دور رئيسي في زخم التوجهات الانتخابية، وإن كان ذلك لا يلغي بالضرورة عوامل مهمة أخرى اقتصادية واجتماعية، محلية ودولية.
تأتي هذه الانتخابات في ظل موجة عاتية من الإسلاموفوبيا، حيث الرهان على الخوف من وجود المسلمين في الداخل الأميركي. في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فجر رجل الأعمال دونالد ترامب، المرشح الذي وصل للسباق النهائي بطريقة غير مفهومة لكثير من الأميركيين، حتى للجمهوريين أنفسهم، فجّر «برميل البارود الدوغمائي»، عندما طالب بفرض حظر تام على دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة، وقد برر تلك الدعوة العنصرية بأنها رد فعل طبيعي على الكراهية التي يكنّها المسلمون في الداخل والخارج للولايات المتحدة.
لمن سيصوت مسلمو أميركا؛ لهيلاري أم لترامب؟
الجواب مثير، وإن كان هناك في كل الأحوال اتجاه عام بين مسلمي أميركا هذه المرة لإظهار تضامنهم وإعلاء، بل وإعلان، شأن مواطنتهم وولائهم لأميركا، غير عابئين بالتخرصات والتهويمات التي تطلق من حولهم وبشأنهم.
تبقى إشكالية الصوت اليهودي.. ولمن سيصوت اليهود الأميركيون؛ هل للديمقراطيين أم للجمهوريين؟
بالنسبة لهيلاري كلينتون، لا يستطيع أحد أن يزايد على علاقاتها بدولة إسرائيل، أو يزاحمها في الوفاء لها، وقد كشفت وثائق «ويكيليكس» أخيرًا عن خدمات جليلة قدمتها هيلاري لإسرائيل في سنوات توليها منصب وزيرة خارجية البلاد، التي واكبت ما عرف بـ«الربيع العربي».
هل لهذا رأينا دونالد ترامب، وفي لقائه الأخير، مع بنيامين نتنياهو، يزايد على هيلاري، ويعد بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، باعتبارها عاصمة لإسرائيل، الأمر الذي لم يقدر عليه أي رئيس أميركي حتى الآن، مراعاة للأوضاع الدولية، بداية بوصف القدس مدينة محتلة، وحفظًا لمشاعر العرب والمسلمين وكرامتهم حول العالم؟
الجواب في كل الأحوال ليس يسيرًا، فاتجاهات الأصوات اليهودية ورصدها عملية صعبة، لتعدد المناحي والمشارب داخل هذه الكتلة ما بين يهود ليبراليين علمانيين، ويهود أرثوذكس تقليديين محافظين، وقد حدثت بالفعل انشقاقات داخل اللوبي اليهودي الأميركي منذ بضع سنوات، وظهر تيار ما يعرف بالـ«جي ستريت» المتحرر، بل والمتحلل، من دعم إسرائيل.
خلاصة القراءة السابقة تبين لنا، وبوضوح، أن الولايات المتحدة وشعبها، كانوا، ولا يزالون شديدي التدين، وليس معنى فصل الدولة عن الدين. إن أميركا كيان مغرق في العلمانية، لكن اختفاء سلطة الدولة في الدين أدى إلى توسع السلطة المذهبية الدينية، بما أدى إلى تحول السلطة الدينية بعيدًا عن الدولة وباتجاه الهيئات المؤسسية التطوعية، وتعميق دور الدين غير المباشر في المجتمع، وهذا ما يشير إليه صموئيل هنتنغتون، المنظِّر الأميركي الأشهر في كتابه «من نحن..؟! المناظرة الكبرى حول أميركا».
ولعل الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن غياب اللغة الدينية في الدستور ونصوص التعديل الأول ليست دليلاً على أن أميركا دولة علمانية أساسًا، فهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة.
ذات مرة تحدث أبراهام لنكولن العظيم في رؤساء أميركا قائلاً إن «الله شكّل أحداث أميركا».. كان ذلك في وقت تعج فيه أوروبا بزعماء من نوعية بسمارك ودزرائيلي وغاربيالدي ونابليون المغرقين في الماسونية والعلمانية الجافتين، في حين كان معظم زملاء لنكولن يفكرون مثله.
المسألة الدينية الأميركية إذن ليست حدثًا أو حديثًا طارئًا بل هي متجذرة في النفس الأميركية.. هل لنا أن نندهش إذا وقر لدينا أن العامل الديني يلعب دورًا فاعلاً في الاختيارات الرئاسية والوصول إلى البيت الأبيض؟