كما لو أن طرح سؤال «الدخول الثقافي في المغرب» قد تحول إلى عادة لا بد من استعادتها كل عام، عبر تناول مناسباتي، يطرح، هنا، فيما تسبق إجابته السؤال، هناك في الغرب، ليصير سؤال «الدخول الثقافي»، في المغرب، مثلاً، أشبه بالشجرة التي تخفي غابة من الأسئلة الحارقة التي تهم الشأن الثقافي الوطني، بشكل عام، وذلك بعد أن تحول طرح هذا السؤال، إلى ما يشبه العادة التي يساير بها المتتبعون، للشأن الثقافي المغربي، مختلف تجليات «الدخول»، سواء تعلق الأمر بـ«الدخول الثقافي» أو «المدرسي» أو «الرياضي» أو «السياسي» أو «الاجتماعي»، أو غيرها، فيما تبدو الإجابة عن السؤال معروفة، مسبقًا، لدى السائل والمجيب، على حد سواء، إلى درجة أن تنسحب على سؤال السنة الحالية إجابات السنوات السابقة، دون حاجة إلى تعديل في مضامين الأجوبة أو تخفيف من جرعة المرارة المصاحبة للأسئلة. هكذا، بدل أن يبسط المجيب، المهتم بالشأن الثقافي، أجوبة إيجابية عن سؤال الدخول الثقافي، تجده يحول وجهة نظره إلى محاكمة لوضع ثقافي يبدو معطوبًا، في بلد يتفق فيه الجميع على أن هذا الوضع يبقى دون المأمول، خصوصا عند مقارنته بما يقع في أوروبا، حيث «للدخول الثقافي طقوس معروفة وعلامات تدل عليه»؛ غير أنك تجدهم يتفاوتون في طريقة تشريحهم للواقع وسبل تجاوزه نحو الأفضل.
عن مقارنته بين الدخول الثقافي في المغرب والدخول الثقافي في فرنسا، حيث يشتغل مسؤولاً عن اللقاءات الثقافية بـ«معهد العالم العربي» بباريس، ومنسقًا علميًا للملتقيات التاريخية بالمعهد نفسه، يقول الكاتب المعطي قبال: «لا مقارنة بين البلدين والحدثين. في فرنسا، ما يسمى بـ(الدخول الأدبي)، يعد طقسًا ثقافيًا تحركه عدة آليات؛ من بينها دور النشر، والبرامج الثقافية على المحطات الإذاعية والقنوات الفضائية المخصصة لمتابعة الإصدارات، والملاحق الأدبية، والمجلات، والمواقع الإلكترونية، والمؤسسات الثقافية والإعلامية التي تطلق الجوائز وتمنحها لأفضل رواية أو دراسة نقدية.. إلخ. هكذا يخرج الكتاب عن نطاق المكتبات إلى المتاجر الكبرى، ومحطات القطار، والمطارات، والمعارض. على سبيل المثال، صدرت هذه السنة 560 رواية وقصة قصيرة فرنسية وأجنبية، كما افتتح موسم الجوائز الأدبية بترشيح جوائز الـ(غونكور)، و(رونودو)، و(ميديسيس)، والـ(فيمينا).. إلخ، للقوائم الأولى من المرشحين والمرشحات. وعلى مستوى الكتب والدراسات النقدية، تصدر 2200 دراسة نقدية تغطي مجالات التاريخ، والسياسة، والفكر الفلسفي والأنثروبولوجي، والسيرة الذاتية السياسية.. إلخ. وستكون مناسبة على خلفية الانتخابات الرئاسية لعام 2017 لمطارحات فكرية وسياسية كثيرة. وعليه، يكاد الدخول الثقافي، في فرنسا، يكون طقسًا فريدًا من نوعه لا نجد مثيله في أي بلد آخر. ويعترف الأنجليساكسون أنفسهم بهذا التميز. وإذن، لا مجال للمقارنة مع أو بالمغرب الذي اقتبس تسمية (دخول أدبي) من دون أن يفتح الثقافة، بل الثقافات المغربية، على دينامية التنشيط بمعناه العام. لا نتوفر على (كاتالوغ) شامل بالإصدارات الجديدة، ولا على البرامج الموسمية للأنشطة التي تقوم بها المؤسسات الرسمية أو شبه الرسمية، بل وحتى المستقلة. هذا يتطلب خطة وإدارة ثقافية نفتقد لهما. المؤسسات التي تنشط بانتظام، نسبي، هي المعاهد الفرنسية التي تدخل سياستها في نطاق التعريف والدعاية للثقافة الفرنسية. رب متسائل: لم الدخول الأدبي في بلد علاقة سكانه بالكتاب رخوة إن لم تكن منعدمة؟ ليس ذلك بمبرر. ذلك أنه بالمغرب رغبة وطموح إلى نهضة ثقافية تجعل من الثقافة محركًا رئيسيًا في المجتمع. وستوفر مناسبة استضافة المغرب ضيفا شرفيا في معرض الكتاب لعام 2017 فرصة لتحديد المعالم الأولية لهذه النهضة، إذا ما أوكلت الأمور إلى الاحترافيين والعارفين في الشأن الثقافي، وإلا قد (يتفرج) علينا، بالمعنى الساخر، الجمهور الفرنسي والأوروبي الذي يحج للمعرض الدولي للكتاب».
من جهته، يبدو حسن نرايس، الإعلامي والكاتب والناقد، أكثر تشاؤمًا وانتقادًا للمنطق الذي يتم به التعاطي مع المشهد الثقافي، خصوصا فيما يخص الاستراتيجيات المسطرة، لذلك كان طبيعيًا أن تأتي إجابته عن سؤال الدخول الثقافي منسجمة مع رؤيته للوضع الثقافي بشكل عام، حيث يقول: «الدخول الثقافي بالمغرب يبتدئ يوم افتتاح فعاليات المعرض الدولي للكتاب، وينتهي يوم اختتام الفعاليات. وطيلة الأشهر الأخرى، نتعامل مع الثقافة بمنطق التقسيط.. ندوات هنا.. تقديم وتوقيع كتب مجملها على الحساب الشخصي لأصحابها. هناك نقص ملحوظ في استراتيجية فعالة من طرف الوزارة الوصية. هناك عدم تنسيق جاد بين الفاعلين في الحقل الثقافي. بعض دور النشر تتعامل كشركات همّها الأول والأخير الربح المالي. وفي هذه الأجواء المكهربة لا يمكن الحديث عن الدخول، بل عن الخروج».
وعند سؤاله عن أوجه المقارنة بين الدخول الثقافي في المغرب ومثيله في فرنسا، مثلا، قال كاتب «الضحك والآخر.. صورة العربي في الفكاهة الفرنسية»: «عدد دور النشر في الدوائر الباريسية 1 و5 و6 و7 يفوق عدد دور النشر في المغرب كله. قمت بالحساب بداية الألفين. ناهيك بعدد الكتب الصادرة في جميع الحقول وكل الأجناس. ولذلك، لا مجال للمقارنة».
من جهته، يشير عزيز أزغاي، الشاعر والفنان التشكيلي، في بداية تناوله سؤال الدخول الثقافي في المغرب، إلى أن «تقليد (الدخول الثقافي) يعد عادة غربية – أوروبية بامتياز، وهي عادة تعكس تلك السيرورة الطبيعية، التي تكرست، تاريخيًا، بوصفها تقليدًا مجتمعيًا ورسميًا، جاء نتيجة لانشغال مؤسساتي وشعبي منتظم بالمسألة الثقافية، لا باعتباره ترفًا معرفيًا، وإنما رافعةً إضافيةً لسقف التنمية». لذلك، «ليس من باب المصادفة (يضيف كاتب: الثقافة والصناعات الثقافية في المغرب)، أن يكون لكثير من الدول الغربية دخولها الثقافي، الذي يعتبر، إلى جانب الدخول المدرسي والاجتماعي والسياسي، أيضًا، محطة قارة يتم خلالها تقديم ما اجتهدت دور النشر في طبعه من كتب، هي حصيلة مجهود يساهم في ضمان استمرار هذه المؤسسات الثقافية، بما يحقق تميزها في جو من المنافسة الشرسة على استمالة القراء».
ويرى أزغاي أنه «مما لا شك فيه أن هناك ظروفًا تاريخية ساهمت في فرض هذا الواقع الحضاري المتصل بفعل القراءة. ومن ذلك، يمكننا الحديث عن المكانة التي يحظى بها السؤال الثقافي في أجندات الأحزاب السياسية الغربية - على اختلاف مشاربها وميولها الآيديولوجية - وفي برامجها الانتخابية، مما يجعلها على قدم المساواة مع المطالب الاقتصادية والاجتماعية، وغيرها من القطاعات الحيوية الأخرى ذات الصلة بحياة المواطن الغربي اليومية»؛ ويضيف أزغاي: «ما أعطى للشأن الثقافي قوته داخل النموذج الغربي أنه يتصل، آليا، بآفاق وتصورات رجالات الاقتصاد ومنظريه، من خلال تحويل مختلف المبادرات الثقافية من ممارسات مستقلة بطموحاتها ومعزولة بقضاياها، إلى معادل حيوي في سيرورة النهوض باقتصادات كثير من الدول المتقدمة». ومن هنا، يشدد أزغاي، «برز إلى الوجود، قبل ما يقارب قرنا من الزمن، مفهوم (الصناعات الثقافية)، الذي تطور إلى مفهوم (الصناعات الإبداعية)، وهما مفهومان يحيلان إلى نوع من التعامل الغربي البرغماتي مع المسألة الثقافية، في سياق البحث عن موارد جديدة غير تقليدية، وعن أسواق خارجية لتسويق الأفكار والثقافات والقيم والصور، إلى أن تحول الأمر إلى ما يشبه حربا نظيفة، حلت محل الحروب القديمة، التي أفرزت الظاهرة الاستعمارية. فإلى جانب التطور الكبير الذي شهدته صناعة الكتاب والمطبوعات، على اختلاف أنواعها ومحتوياتها، عرفت الصناعة السينمائية، بوصفها مرحلة متأخرة من ثقافة الصورة، انتشارًا غير مسبوق، أسهم ليس فقط في مضاعفة مداخيل هذه الأنواع من الصناعات الذكية، حتى فاقت، بالنسبة لدول مثل إنجلترا وأميركا وفرنسا وتركيا في السنوات القليلة الماضية، مداخيل بعض الصناعات التقليدية الثقيلة، وإنما أيضا في ضمان مكانة جد متقدمة ومؤثرة في صناعة الرأي وتدجين البشر وخلخلة قناعات المشككين منهم في طموحات الأنظمة الجبارة، التي باتت تسيطر على اقتصادات العالم». لذلك، بعد هذا الجرد السريع لواقع السياسات الثقافية لدى الغرب، ينتهي أزغاي إلى القول: «إن كان لنا أن نتساءل، بغير قليل من السذاجة القاسية: ما نصيبنا من كل هذا التطور؟ مجرد سؤال أبيض لا نملك له، على الأقل في الوقت الراهن، جوابًا مقنعًا».
المغرب: هل هناك دخول ثقافي.. أم خروج؟
سؤال يتكرر كل عام بلا إجابات مقنعة
المغرب: هل هناك دخول ثقافي.. أم خروج؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة