الغرام الباريسي بسينما الأمس وشغف الفرنسيين بها لا مثيل له في أي مكان آخر من العالم.
في العام الأسبق، 2014، عُرض 126 فيلمًا كلاسيكيًا، من سنوات السينما الصامتة حتى منتصف الثمانينات، في الصالات الفرنسية. وفي العام الماضي، ارتفع عدد الأفلام القديمة التي عرضت على الشاشات الفرنسية الكبيرة في فرنسا إلى 140 فيلمًا. وهذا العام، يتنبأ مهرجان لوميير في دورته الرابعة بأن يرتفع العدد إلى أكثر من 150 فيلمًا.
صاحب «الفزاعة»
لا يستطيع مهرجان لوميير، الذي سيغلق دورته الرابعة مساء الثامن عشر من هذا الشهر بعد ستة أيام حافلة، استعادة الراحلين من كبار السينمائيين، لكنه بالتأكيد يستطيع الاحتفاء بهم عبر عرض أفلامهم، ومن خلال استضافة ممثلين ومنتجين ومخرجين ما زالوا على قيد الحياة، إلى جانب عدد من السينمائيين الجدد الذين لديهم ما يعبّرون عنه حيال سينما الأمس.
كمثال على ذلك، حضرت الممثلة والمخرجة الفرنسية نيكول غارسيا هذه الدورة التي أقيمت في مدينة ليون، لتقديم فيلمين: أحدهما Place Vendôme، من إنتاج عام 1998، وبطولة كاثرين دينوف في شخصية امرأة تعيش ظرفًا غامضًا، وهو الدور الذي منحها جائزة أفضل ممثلة في دورة ذلك العام في مهرجان فينيسيا. والفيلم الثاني هو تمهيد للعرض التجاري المزمع لفيلم غارسيا الجديد «من أرض القمر».
جيري تشاتزبيرغ هو أحد الكبار في سينما السبعينات، منذ أن قدّم سنة 1970 فيلمه الأول «لغز طفلة ساقطة»، مع فاي داناواي وروي شايدر. وبعده بعام واحد، عاد تشاتزبيرغ بفيلم أقوى أثرًا عنوانه «الذعر في نيدل بارك»، أحد تلك الدراميات الداكنة التي منحت الممثل آل باتشينو ضوءًا ساطعًا، قبل أن يدلف لبطولة «العرّاب».
فيلم جيري تشاتزبيرغ (الذي يبلغ الآن التاسعة والثمانين من العمر) الثالث كان أيضًا عملاً من تلك الأفلام القوية، مضمونًا وأسلوبًا، وهو «فزاعة» مع آل باتشينو وجين هاكمان. ولحساب المنتج التونسي طارق بن عمّار، عاد تشاتزبيرغ إلى الواجهة سنة 1984 بفيلم «سوء فهم»؛ ليس أفضل أعماله، لكنه، كدراما عاطفية، أفضل اليوم من نصف ما ينتج حاليًا من أفلام من نوعه. هذا العام، عاد تشاتزبيرغ إلى المهرجان مرّة ثانية. الأولى كانت في دورة المهرجان الأولى سنة 2012، وقدّم فيها «فزاعة». هذه المرّة، سيقدم فيلمه الجيد الآخر: «الذعر في نيدل بارك».
تجديد القديم
عندما قررت مدينة ليون إقامة مهرجان سينمائي مطلع هذا العقد، بحثت عن مهرجان يكون فريدًا بالفعل بين المهرجانات السينمائية وما أكثرها (نحو 4 آلاف في آخر تعداد، بينها نحو 30 في الصفوف الثلاثة الأولى). ووجدت ضالتها في فكرة تأسيس مهرجان يعني بسينما الأمس، لكن ليس فقط من باب اكتشاف أفلام صامتة (هناك مهرجانات أخرى لهذه الغاية)، بل من باب الاحتفاء بالعصر الذهبي المتأخر لهوليوود والسينما العالمية، عصر الستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي.
وإن بدا الاختيار نوستالجيًا في كل الأحوال، فإنه استند إلى الأرقام الواردة أعلاه التي تشي بحب الفرنسيين الكبير للأفلام التي خرجت في تلك الحقبة. ففي العام الماضي، على سبيل المثال، عُرض فيلم ريدلي سكوت «بلايد رانر»، وهو من إنتاج سنة 1982، مع هاريسون فورد وروتغر هاور، والمتواريتان شون يونغ وداريل هانا، فباع 26 ألف تذكرة (سعر التذكرة الباريسية نحو 15 دولارًا)، كذلك باع فيلم ويليام فرايدكن المرعب «مشعوذ» (Sorcerer) الذي قاد بطولته سنة 1972 روي شايدر، والتونسي الأصل أميدو، والفرنسي برونو كريمر، 17 ألف تذكرة.
يليهما في المركز الثالث بين أعلى الأفلام المستعادة نجاحًا «الرجل الثالث» لكارول ريد مع جوزف كوتون وأورسون ولز، وهو من أفلام الأبيض والأسود البوليسية - الجاسوسية الأكثر نجاحًا. وقد باع هذا الفيلم 15 ألف تذكرة.
والمسألة، كما يشرحها المهرجان بلسان مسؤوليه، ليست مجرد طلب فيلم من شركة التوزيع، أو من أصحاب الحقوق، والحصول عليه وبرمجته في بضع صالات، بل كتابة ملخصات جديدة، وطبع ملصق مختلف جدًا عن الأصل يغري مشاهدي اليوم، والأهم ترميم الفيلم القديم عبر تصحيح ألوانه، أو إزالة بعض التلف الذي علق بالنيغاتيف، مع عمليات تحويله التقنية من بكرة كبيرة (كما كانت العادة آنذاك) إلى أسطوانات عرض حديثة.
ليس كل هذا فقط، بل بات في وسع شركات التوزيع المنهمكة في توسيع رقعة التسويق لهذه الجواهر الكبيرة توفير حملة دعائية مستفيدة من استعداد النقاد الفرنسيين للكتابة عن تلك الأعمال التي نشأ معظمهم عليها.
الفيلم كما قُصد أن يكون
في غمار ذلك، تساءل أحد الحضور، في مؤتمر صحافي عقد قبل أيام، عما يضمن أن المشاهدين سيفضلون عرض الفيلم على شاشاتهم المنزلية التي توفر لهم قدرًا مماثلاً من الأفلام القديمة، بل أكثر.
الجواب كان أن المسألة هي مسألة رغبة حجم كبير من المشاهدين في رؤية تلك الأعمال على الشاشات الكبيرة التي تم إنتاجها خصيصًا لها، وكيف أن الفارق بين أن تشاهد «ألامو» لجون واين أو «الساموراي» لجان - بيير ملفيل على الشاشة الكبيرة، وأن تشاهده على الشاشة الصغيرة بين فقرات الإعلان، كبير وكاف لأن يدفع هذا الجمهور لمشاهدته في صالات السينما.
هذا الناقد يستطيع أن يضيف مسألة مهمّة أخرى ماثلة، وهي أن تلك السينما تنتمي، بمكوناتها وعناصرها المختلفة، إلى زمن لم يعد متوفرًا. فبعض الأفلام اليوم ما زالت تصر على الالتحاق بذلك النمط (مثل «المنبعث» لأليخاندرو إيناريتو)، لكنها قليلة وتتعرض لضغوط إنتاجية جمّة بسبب رغبة الاستوديوهات الكبيرة في اعتماد المنوال الحديث من وسائل الصنعة السينمائية، كتابة وإخراجًا وتنفيذًا إلكترونيًا.
وبمثول هذه السينما الحديثة، يدرك كثيرون - في الغرب خصوصًا - أن وسيلتهم الوحيدة لتقدير الفن السابع كما قُصد بهذا الفن أن يكون هو العودة لمشاهدته، وفي صالات السينما تحديدًا. هذا إلى جانب جمهور شاب يعرف عن تلك الأفلام، كونه سمع بها أو قرأ عنها، مما يجعله يعتبر عروضها الجديدة مناسبة أقرب إلى الحدث بحد ذاته من أي شيء آخر.
هذا الوضع بين حب الاستعادة وحب الاكتشاف فرض إقامة سوق في مهرجان «ليون» امتد لثلاثة أيام، مدعومًا برغبة شراء الموزعين لحقوق العروض المدمّجة (DVD)، أو تجديدها. لكن الأنظار بقيت مسلطة على ما زخر به المهرجان من عروض، خصوصًا أنها جاءت مصحوبة بحضور سينمائييها وأولئك الذين يشدون من أزرها، مثل المخرج الأميركي كونتِن تارانتينو الذي أعلن قبل يومين أن فيلمه المقبل سيكون بإيحاء سينما السبعينات، ولو أن هذا الإعلان ليس مفاجأة، إذ إن جميع أفلامه تنتمي، روحًا وشكلاً، إلى تلك الفترة.
أيضًا من بين الحضور الذين أشاعوا البهجة المخرج الفرنسي برتراند تافرنييه الذي عرض عنه فيلم بعنوان «رحلتي عبر السينما الفرنسية» الذي يتابع أعماله من الثلاثينات حتى السبعينات. وخلال وجوده، قدّم المخرج المعروف (75 سنة) فيلمًا منسيًا لمخرج منسي.
الفيلم هو «خائف من الكلام» Afraid to Talk الذي قام المهني إدوارد كوهن بتحقيقه سنة 1932: فيلم انتقادي نيّر، يدور حول صبي يشهد سياسيين يقبضون رشى، فيصبح مهددًا بالفتل. كوهن لم يبلغ شأنًا كبيرًا في حياته المهنية التي امتدت ما بين 1922 و1962، لكن عددًا من أفلامه تركت بصمة واضحة المعالم كأحد أهم مخرجي سينما الويسترن والسينما البوليسية. ومثل سواه، بدأ من القعر (عامل ديكور)، ثم ارتقى إلى مونتير، ثم إلى مخرج مساعد، قبل أن يصبح مخرجًا لأول مرّة سنة 1931.
هذا النوع من الاكتشافات ليس الوحيد. هناك اليوم مخرجون، ينتمون إلى السنوات الأربعين الماضية، يميل الزمن، مدعومًا بظروف الإنتاج، إلى نسيانهم. أحد هؤلاء وولتر هِل الذي حضر الدورة الرابعة من المهرجان، وأشرف على «ماستر كورس» تحدث فيه عن تجربته وعن أفلامه التي شملت أعمالاً رائعة، من بينها «سائق» (1978) و«48 ساعة» (1982) و«ضيافة جنوبية» (1981)، وصولاً إلى «جيرونيمو: أسطورة أميركية» (1993)، وحفنة قليلة فيما بعد.
بعض أهم ما قاله هذا المخرج في ساعة ونصف من النقاش هو اعترافه بأن سينماه تحمل تأثرًا بأفلام المخرج الياباني الفذ أكيرا كوروساوا. قال: «عندما بدأت الإخراج، قيل إن أفلامي متأثرة بأفلام سام بكنباه. وعندما بدأ سام بكنباه الإخراج، قيل إن أفلامه متأثرة بكيروساوا، وستجد أن أفلام أكيرا كيروساوا تحمل ملامح من أفلام جون فورد، التي تحمل بدورها تأثرا واضحًا بأفلام د. و. غريفيث».
يبقى أنه عندما قام المحاور بتقديم وولتر هِل لجمهوره الفرنسي قائلا: «… وهو مخرج متواضع»، سارع المخرج بنفي ذلك عن نفسه، قائلاً: «لا يوجد مخرج متواضع؛ نحن آلات من الشعور بالذاتية والطموح متخفية بأشكال شتّى».
مهرجان ليون الفرنسي يحتفي بالماضي الذهبي للسينما
الدورة الرابعة احتفلت بكبار السينمائيين الراحلين
مهرجان ليون الفرنسي يحتفي بالماضي الذهبي للسينما
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة