سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

هتلر مرشح «نوبل للسلام»!

تمنح «جائزة نوبل للسلام» أحيانًا، على حسن النوايا، بدل أن تأتي تتويجًا لنضال سلمي نضج ثمره وبان أثره. والرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس الذي نالها منذ أيام، لا تزال محاولاته لإنهاء الحرب الأهلية بين الدولة والمتمردين «الفارك» بعد أكثر من خمسين سنة من القتال في أصعب مراحلها، إثر رفض الشعب اتفاقه معهم، على اعتبار أن تنازلاته مبالغ فيها، وتشجع على الجريمة بدل أن تعاقبها. ومن الصعب التنبؤ بما ستؤول إليه مفاوضات السنوات المقبلة، وهل سيكون لـ«نوبل» من معنى أو فائدة، لنزاع كان معقدًا وصار أكثر تعقيدًا؟
رضي سانتوس بالعفو عن نحو 5 آلاف متمرد، وبأحكام رمزية لقادتهم، ومنحهم عشرة مقاعد برلمانية، وهو ما قابله الكولومبيون الأسبوع الماضي إما بمقاطعة الاستفتاء على الاتفاق، وإما بالتصويت ضده بأغلبية بسيطة. وجاءت «نوبل» بمثابة نفحة أكسجين منعشة لسانتوس في مواجهة معارضيه السياسيين، وفي مقدمتهم الرئيس السابق ألفارو أوريبي، وسند معنوي له بعد أن انخفضت شعبيته إلى أدنى مستوياتها.
بالغ مانحو الجائزة بالمجازفة، حين اعتبروا أن مجرد إعلان الرغبات الطيبة يكفي وحده للفوز بها، وهو ما جعلها مجالاً للسخرية، إنها حالة باراك أوباما بعد دخوله البيت الأبيض، وسط فورة التهليل العالمية، لأول رئيس أميركي من أصول أفريقية. أحد أعضاء اللجنة اعترف صراحة، أن ثمة ندمًا على التسرع في منح الجائزة لأوباما. الوعود التي قطعها الرجل بتعزيز الدبلوماسية، والتعاون بين الشعوب، كما إيجاد حل للقضية الفلسطينية ذهبت هباء، رغم فترتين رئاسيتين. وبدلاً من السعي الفعلي للسلام، بقي صاحب خطاب «جامعة القاهرة» - حول التآخي بين الإسلام والمسيحية - متفرجًا على مجازر المنطقة، متدخلاً صوريًا في محاربة «داعش»، نصف مشلول في ليبيا، ومرتبكًا في سوريا، أما فلسطين فلم يعد أحد يسمع بها.
كان لـ«نوبل للسلام» وهجها، في السنوات التي أحسنت اختيار الكبير نيلسون مانديلا، رمز النضال ضد التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، ويوم توجت الأم تيريزا التي منحت حياتها للضعفاء والمرضى، وحين كافأت مارتن لوثر كينغ المكافح من أجل حقوق الإنسان. الجائزة لم تكن دائمًا بهذا النبل والنقاء الإنسانيين. عودة سريعة إلى أسماء الفائزين، لترى كيف أنها بقيت لما يقارب مائة سنة، أوروبية أو أميركية في اختياراتها، وكأنما الشقر أجدر بها من الآسيويين والأفارقة وأهل أميركا اللاتينية، ولم تصبح أكثر انفتاحًا إلا في السنوات الأخيرة.
منذ مطلع القرن الجديد، صارت الجائزة عالمية، ليس فقط بسمعتها كما كان الحال من قبل، بل في تنوع جنسيات الفائزين، وخروجها من قفص الذكورية. فنالتها توكل كرمان من اليمن، وملالا يوسف زاي من باكستان، وكايلاش ساتيارثي من الهند، وشيرين عبادي من إيران، ومحمد البرادعي من مصر، وكذلك حصل عليها الرباعي الراعي للحوار الوطني في تونس العالم الماضي، وها هي هذه السنة تذهب إلى الرئيس الكولومبي.
هل تتعولم جائزة «نوبل»، بفعل المتغيرات بعد أن انطوت على نفسها طويلاً؟ ربما أن الانفتاح القسري، بلغ أخيرًا، الأكاديمية الأكثر كلاسيكية، ورجالاتها بهالتهم التي تعود إلى قرن من الزمن؛ إذ لا يعقل، اليوم، أن تتمكن «نوبل» من تجاهل رجال هزّوا العالم بسلوكهم الهادئ ونظرياتهم اللاعنفية، كما فعلت من قبل. هذا لا يعني أن لجان الجائزة أصبحت أكثر عدالة وموضوعية! فلا يزال تكريم المجرمين ممكنًا واختيارهم محتملاً. لا شيء يمنع تكرار فوز قائد حرب من صنف مناحم بيغن، رأى في الفلسطينيين ذات يوم «وحوشًا تمشي على الأرض» أو إسحاق رابين الذي خاض حروبًا قتل فيها المئات وهو على رأس هيئة الأركان، وشمعون بيريس، المسؤول عن مجازر وحروب ولا تزال صور أطفال «قانا» عالقة في الأذهان وضحايا «عناقيد الغضب» ماثلة في الذاكرة.
هؤلاء جميعًا، من الصعب تصورهم حمائم بيضاء، بعد أن ارتكبوا فظائعهم، وإن شاركوا في مفاوضات سلام. كما أن ثعلب الدبلوماسية الأميركية هنري كيسنجر بكل ما رسمه من مكائد وحبائل، لا يمكن أن يقارن بالبنغالي محمد يونس الذي جعل من منح الفقراء قروضًا يبدأون بها مشاريع صغيرة ليعيلوا عائلاتهم قضيته، وابتكر لهذه الغاية بنكًا وصيغة خاصة، استحق من أجلها الجائزة.
كاد تاريخ «نوبل للسلام» يكون أكثر سوءًا، إذ تبين من وثائق تم الكشف عنها، أن رودولف هتلر كان مرشحًا للحصول عليها سنة 1939، لكنها حجبت في ذلك العام، وأن بنيتو موسوليني كان أيضًا على لوائح المرشحين، ومثلهما ستالين الذي طرح اسمه لمرتين متتاليتين. وعلى أي حال، فإن قانون الجائزة يمنع الإعلان عن أسماء المرشحين، في دورة ما، قبل مرور خمسين سنة. ولا بد أننا سنكتشف مزيدًا من المجرمين، والسفاحين كانوا قاب قوسين منها، وشاءت ظروف التصويت استبعادهم، لحسن حظ البشرية.
رغم أن «نوبل للسلام» أعطيت في أغلب الأحيان لمن تجاوزوا الستين، إلا أن بعضهم كان ماضيه أسود، وغيرهم بما تبقى لهم من عمر لوثوا سمعتها. لجان الجوائز بشر، لهم ميولهم وهفواتهم وآراؤهم السياسية، وانحيازهم بحيث تظل تقديراتهم عرضة لأخطاء فادحة، يكشف مرور الوقت مدى جسامتها وخطورتها.
تبقى «نوبل» جائزة غربية، بعيون أوروبية، وذائقة منحازة لحضارتها وثقافتها، وإن وسّعت دائرة رؤيتها. تخطئ الأكاديمية حين تكافئ من لهم تاريخ دموي حتى ولو طلبوا السلام أو سعوا لأجله بعد ذلك. فالقاتل قد يسامح لكنه لا يتوج ويكرّم وتلمّع صورته.
«نوبل» لا تجب ما قبلها، كما أنها، لسوء الحظ، لا تمنح حاملها المناعة من ارتكاب مجازره بعدها.