يرصد الفيلم الوثائقي «طليان مصر» تاريخ الجالية الإيطالية في مصر، التي كانت تعد أكبر جالية أجنبية عاشت على الأراضي المصرية، وأكثرها تغلغلاً في النسيج الاجتماعي المصري وإسهامًا في بناء مصر الحديثة، حيث كانت قمة مجدها في ثلاثينات القرن العشرين حتى دخول إيطاليا الحرب العالمية الثانية، وكان هذا الحدث هو الذي رسم بداية النهاية لأقدم جالية أوروبية في مصر.
فمع قيام الحرب العالمية الثانية الممتدة من عام 1939 حتى عام 1944، اتخذت بريطانيا موقفا من الجالية الإيطالية في مصر أثناء الحرب، الأمر الذي دفعها إلى اعتقال كل ذكور الجالية في معسكرات بالقناة، مما أثر بالطبع على أعمالهم وتجارتهم وحياتهم بشكل عام في مصر.
يقول مخرج الفيلم شريف فتحي سالم لـ«الشرق الأوسط» عن فكرة الفيلم: «أكثر ما يميز هذا العمل أنه معني المثابرة والحب والانتماء لهذه الأرض، الذي شعرت به من حكايات أبطال العمل، فكيف بعد سنوات من الحرب والاعتقال، قامت مرة أخرى صناعة وتجارة وفنون مؤثرة في القاهرة والإسكندرية من قبل الإيطاليين الذين خسروا تقريبا كل شيء مع الحرب العالمية الثانية، وكيف أن معظمهم أكمل حياته في مصر، في تعبير عن حالة الانتماء والحب للأرض التي احتضنتهم وعاشوا عليها بل دفنوا فيها».
يقع فيلم «طليان مصر» في 80 دقيقة يحكي تاريخ الجالية الإيطالية متنقلاً بين شخصيات من التاريخ ومن الواقع الحي ومستعينًا بتحليل متخصصين مصريين وإيطاليين، فيستعرض حياة سبع شخصيات من طليان مصر، اثنان يعيشان حاليا في روما وواحد غادرها بمجرد وصوله سن التقاعد ليعود إلى مسقط رأسه (الإسكندرية) التي كان حنينه إليها يؤرقه منذ غادرها في الخمسينات، أما الشخصيات الأربعة الأخرى فلم يغادروا مصر أبدًا وما زالوا يعيشون في القاهرة والإسكندرية.
يضيف سالم: «بدأت تصوير الفيلم في نهاية عام 2010 في روما، ثم مع بداية الثورة المصرية في يناير (كانون الثاني) 2011 توقف العمل قليلا إلى أن استقرت الأمور وأكملنا تصوير باقي الأجزاء في القاهرة والإسكندرية. وعرض الفيلم لأول مرة في مركز دراسات الإسكندرية وحضارة البحر المتوسط بمكتبة الإسكندرية (شمال مصر)، ثم عرض في الأكاديمية المصرية في روما وكذلك في جامعة باسكوتلندا، ويعرض في نهاية الأسبوع الحالي في قاعة إيورت بالجامعة الأميركية بالقاهرة.
ويتابع سالم: «يرصد الفيلم بعض الشخصيات الإيطالية المؤثرة في حياة المصريين، مثل المعماري الإيطالي ماريو روسي الذي صمم مسجد المرسي أبو العباس والقائد إبراهيم بالإسكندرية ومسجد عمر مكرم بالقاهرة وكان مستشارا في وزارة الأوقاف المصرية من 1930 إلى 1950، وكان مفتونًا بالعمارة الشرقية».
من شخصيات الفيلم، الإيطالي «فرانكو جريكو»، الذي ولد في الإسكندرية ثم ذهب للدراسة الجامعية في إيطاليا ثم تطور في منصبه إلى أن وصل إلى البرلمان الإيطالي، وعند بلوغه سن المعاش، قرر العودة للحياة بالإسكندرية، لأنه يرى أنه سكندري الهوية والأصل، ترك خلفه عائلته ومنصبه وما حققه من نجاحات، ليستقر قلبه على شط بحر عروس المتوسط.
ويروي مخرج العمل عن أحد أبطال فيلمه الوثائقي «فرانكو موناكو» (66 عاما) من الجيل الثالث من عائلته التي ولد وعاش في الإسكندرية وكانت عائلته من أشهر مصنعي المواد الغذائية، وهو الآن رئيس الجمعية الخيرية الإيطالية بالإسكندرية، والتي تدير دار المسنين الإيطالي هناك، وسافر موناكو في شبابه إلى إيطالي وتخرج وحصل على شهادته الجامعية ثم عاد ليدير ويعمل في تجارة العائلة.
ويحكي موناكو أن والدته كانت مريضة وسافرت للعلاج في إيطاليا، ثم توفيت هناك، فأصر والده حينها أن تعود وتدفن في مصر، لأن تراب الإسكندرية أحق بها، ولأنها وطنهم الذي لا يعرفون غيره، وتحملت العائلة حينها مصاريف كثيرة لنقل جثمان والدته من إيطاليا للدفن في مصر.
وعن أطرف المواقف التي تعرض لها المخرج أثناء تصوير الفيلم وعرضه يقول: «في عرض الفيلم لأول مرة في مصر، وبعد انتهائه، فوجئت بسيدة إيطالية، تحكي لي أن والدها كان صاحب مصنع للكاوتش في الستينات، وأنه من قام بإعداد خراطيم المياه المخصصة التي استخدمها الجيش المصري في حرب 6 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، حيث كانوا يطلبون حينها خراطيم مياه بمواصفات خاصة، تتحمل قوة دفع المياه لعبور خط بارليف، وللأسف كنت انتهيت من تصوير الفيلم وكنت أتمنى أن أضم قصتها الملهمة إلى باقي القصص الأخرى، ولكن لا نهاية لهذا السحر الذي يحيط بينا ولا نعرفه، الإيطاليون يعشقون مصر، ويعتبرونها وطنهم حقا».
ويذكر أن مخرج الفيلم، سبق وأن قدم عدة أفلام وثائقية أخرى مثل «تلك الإسكندرية» و«آثار مسلمي صقلية» و«الإيطاليون الجدد» و«مهاجرون سريون» وفاز عنهما بجائزتين. وهو عضو الشبكة الأوروبية للفيلم التسجيلي والجمعية العربية للأفلام الوثائقية، ودرس الهندسة المعمارية والإخراج السينمائي.
«طليان مصر» وثائقي يربط الذكريات بالواقع الحي
عن أكبر جالية أوروبية عاشت على أرضها
«طليان مصر» وثائقي يربط الذكريات بالواقع الحي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة