نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

بيريس.. جنازة مشروع ووعد

قمة العالم التأمت حول نعش شيمعون بيريس، ورغم التفسير البروتوكولي للاحتشاد الزعامي الكبير، فإن ذلك لم يخفِ المدلول الحقيقي لهذا الاحتشاد.
الذين جاؤوا، وأهمهم رئيس الولايات المتحدة، وجهوا من قلب الجنازة رسالة يأسٍ وإحباط معنونة إلى رجلين يتصدران المشهد الإسرائيلي: شيمعون بيريس الميت، وبنيامين نتنياهو الحي.
وإخال أن زعماء العالم لم يأتوا لوداع سياسي مخضرم وطويل الأمد، عايش التجربة الإسرائيلية من أيامها الأولى حتى أيامها الراهنة، بل جاؤوا لتأبين مشروع كان الميت أحد عرابيه ورموزه، وما إن ووري جثمانه الثرى، ووريت معه الفرص الواهية لإعادة الحياة للمشروع.
أما العنوان الثاني الذي وجهت إليه رسالة اليأس، فكان بنيامين نتنياهو الذي قال كلمة لم يتوقف عندها كثيرون، مع أنها تجسد واقع الحال «أنا وأنت على حق»، والمقصود بهذه الجملة أن الحائزَ نوبلَ للسلام، يتماثل في النتائج مع الحائز جائزةَ التشدد والتعطيل، فكلاهما أنجز بقصد أو بغير قصد ابتعادا كبيرا عن السلام مع الفلسطينيين.
شيمعون بيريس عراب أوسلو ومروّض رابين للقبول بها فشل مرتين.. الأولى، حين حاول فرض المجازفة على إسرائيل دون حساب دقيق لمغزى تمريره في الكنيست بأغلبية صوت واحد، وتُوج الفشل بإعدام شريكه في المجازفة إسحق رابين، أما الفشل الثاني فجاء حين دخل في مزاد بائس مع الـ49 في المائة من الرافضين، فأهداهم استثناء الخليل وحرمها الإبراهيمي من انسحابات المدن، وزاد بارتكاب مجزرة قانا لعله بذلك يكسب بعض الأصوات من المعسكر المغلق ضده وضد مبدأ السلام مع الفلسطينيين.
فشلان بهذا الحجم لا يوقفان الساعة عن الدوران فحسب، بل يعيدان عقاربها دورة كاملة إلى الوراء، وهذا ما نحن فيه الآن.
وحين قال نتنياهو أنا وأنت كنا على حق، فهو يقصد أن الفشل في محاولة السلام خدمَ الدولةَ العبرية مثل التشدد، وها هو بيريس، بما يمثل صدقًا أو زورًا، توارى عن المشهد إلى الأبد مانحًا نتنياهو هدية طالما حلم بها، وهي أنه لم يعد للسلام رمز في إسرائيل، والذي بقي متكرسا وإلى أجل غير مسمى الجزء الآخر من المعادلة، وهو التشدد.
أما بالنسبة للفلسطينيين الذين قسمهم فشل أوسلو، وسيد الفشل هنا هو شيمعون بيريس، فقد تعمق انقسامهم حين غاب عن المشهد، وما حدث جراء مشاركة عباس في التشييع يسجل حتما على حساب التجربة الفاشلة، ذلك أن الرفض الواسع للمشاركة لم يتبلور بفعل السبب المباشر فقط، وإنما بفعل انقلاب الحالة من النقيض إلى النقيض، ونستدل على ذلك بجنازة ومأتم رابين، حيث لم يتوقف أحد عند مشاركة زعماء عرب، ومن ضمنهم ياسر عرفات، أما جنازة بيريس، فقد أشعلت المشاركة نارا وقودها فشل الرهان، وتحول الأمل إلى نقيضه.
هكذا قرأت واقعة الجنازة ودوافعها وما حملت من دلالات، لم تكن جنازة شخص، مهما بلغ شأنه في العالم، بل كانت جنازة مشروع ووعد.