صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

سوريا.. أأخطاء أميركا هي من جعلت روسيا دولة عظمى؟!

آخر خطأ ارتكبته هذه الإدارة الأميركية، إدارة الرئيس باراك أوباما «المُغادرة»، أنها بادرت إلى تقديم اعتذار عمّا قامت به قوات التحالف الدولي، ومن ضمنها القوات الأميركية، بتوجيه ضربة جوية إلى وحدات من جيش النظام السوري أدت إلى مقتل أكثر من مائة عسكري، وهذا غير الجرحى الذين لم يأت أي ذكر لأعدادهم، والمؤكد أن هذا الاعتذار «العاجل» يعني تبرئة هذا الجيش من تهمة أنه أصبح مجموعة من القتلة و«الشبيحة» ومجرد زمر من الميليشيات الطائفية، وهو يعني أيضًا الاعتراف، وإنْ بطريقة ملتوية وغير مباشرة، ببشار الأسد، الذي اتهمته واشنطن رسميًا بأنه مسؤول عن قتل ستمائة ألف من المواطنين السوريين الأبرياء، الذين كل ذنبهم أنهم تخلوا عنه وانحازوا إلى الانتفاضة السورية!
ثم وإن ما لم يخطر ببال الإدارة الأميركية هو أن هذا الاعتذار المتسرع ستترتب عليه استحقاقات كثيرة، إنْ في المدى المنظور وإنْ على المدى الأبعد، من بينها أن أي نظام سوري وسواء أبقي هذا النظام القائم الآن أو أي بديلٍ قادم سوف يطالب بتعويضات مالية بالنسبة لمقتل كل هذا العدد الكبير من العسكريين (السوريين)، وعلى غرار ما فعله ذوو ضحايا جريمة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2002 الإرهابية عندما لجأوا إلى بعض المحاكم الأميركية التي حاولت تحميل المملكة العربية السعودية زورًا وبهتانًا مسؤولية هذه الجريمة الإرهابية، مع أن الأميركيين والعالم كله يعرف أنها أولى ضحايا الإرهاب، وأنها لا تزال تخوض حربًا ضروسًا مع «داعش» و«القاعدة» وباقي التشكيلات والتكوينات المتطرفة.
وهكذا فإنه ما كان على الإدارة الأميركية أن تبادر هرولة إلى مثل هذا الاعتذار الذي شجع روسيا على المسارعة لمطالبة الأميركيين بفتح تحقيق بهذا الحادث، وكان على الرئيس باراك أوباما أنْ يعرف إنْ كان هو لا يعرف أن هناك نظرية ماركسية تقول: إنه عليك ألا تتراجع أمام الخصم، ولو بمقدار خطوة واحدة، وذلك لأن تراجعك سيشجعه على مواصلة ضغطه ليلزمك بالتراجع خطوة أخرى.. وبخطوات متتالية كثيرة.
إن هذا «الاعتذار» الذي لم تكن هناك أي ضرورة له لا أخلاقيًا ولا سياسيًا هو آخر خطأ ارتكبته إدارة باراك أوباما المغادرة غير مأسوف عليها، أما هذه الأخطاء التي هي في واقع الحال كثيرة، ولا يمكن حصرها ولا عدّها، فهي تبدأ بتراجع الرئيس الأميركي عن تلك الضربة العسكرية، التي كان قد اتخذ قرارها بعدما ثبت أن بشار الأسد قد استخدم الأسلحة الكيماوية الفتاكة، واستخدم الغازات السامة المرعبة ضد شعب من المفترض أنه شعبه، لكنه، أي الرئيس الأميركي، قد تراجع في اللحظة الحاسمة الأخيرة، استجابة لمبادرة روسية، ثبت لاحقًا أنها كانت مناورة بارعة، تقول: إن الأفضل كبديل لأي عمل عسكري بهذا الخصوص، هو تجريد سوريا وبصورة نهائية من كل هذه الأسلحة الكيماوية.
وأيضًا فإن المعروف أنَّ الرئيس أوباما كان قد ارتكب خطأ فادحًا ارتقى إلى مستوى الخطيئة، التي ستبقى تلاحق كل من سيخلفه في هذا الموقع ربما إلى يوم القيامة وإلى أن يرث العلي القدير الأرض ومن عليها، عندما وقع على تلك الاتفاقية المعيبة، الاتفاق النووي، مع نظام الولي الفقيه في طهران وكل ذلك، في حين أن المفترض أنه يعرف أنَّ الذين يحكمون في إيران هم أهل «تقية»، وأنه لا يمكن الثقة بهم، وحقيقة أنَّ هذا قد ثبت وبكل وضوح حتى قبل أن يصيح الديك، كما يقال، عندما بدأ المسؤولون الإيرانيون يتحدثون عن أن هذه الاتفاقية التي وقعوها تتضمن فجوات تسمح لهم بـ«التخصيب» النووي إن ليس قريبًا فعلى المدى البعيد!
ثم وإن أكبر ليس خطأ وإنما خطيئة ارتكبتها الإدارة الأميركية منذ بدء انتفاضة الشعب السوري وحتى الآن ضد واحد من أسوأ الأنظمة التي عرفتها البشرية في القرن العشرين، وفيما انقضى حتى الآن من سنوات هذا القرن الحادي والعشرين، أن الرئيس باراك أوباما قد أظهر تواطؤًا أثار الكثير من الأسئلة والتساؤلات عندما بدأ الروس تدخلهم العسكري في سوريا، واحتلالهم الذي أتم عامه الأول يوم الثلاثاء الماضي، وكل هذا في حين أن المفترض أن هذا التدخل سينتهي وتعود القوات الروسية إلى بلادها بعد فترة قصيرة كانت قد صدرت إشارات كثيرة بأنها لن تزيد على الشهر الواحد!
والسؤال هنا هو: هل يا ترى أن باراك أوباما، الذي لديه إمكانيات أكبر وأهم دولة في العالم وبخاصة بالنسبة للأمور الأمنية والاستخبارية، كان يصدق أن تدخل الروس في سوريا سيقتصر على مجرد فترة زمنية محدودة وعلى نُزهة «احتلالية قصيرة».. إنَّ هناك مثلاً معروفًا يقول: «إن كنت تدري فتلك مصيبة وإنْ كنت لا تدري فالمصيبة أكبر».. ويقينًا أنه كان بإمكان الولايات المتحدة، إنْ لم يكن المقصود إغراق روسيا في هذا المستنقع السوري، أن تمسك بسيِّد الكرملين من الذراع التي تؤلمه، وأن تملي عليه مغادرة سوريا خلال أيام، فروسيا خلافًا لما يظنه البعض تمر في هذه الفترة بالذات بأوضاع هي أسوأ ما مرت به منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
إنه بالإمكان وصف روسيا الآن، حتى وهي تستعرض عضلاتها على الساحة السورية لتثبت أنها دولة عظمى، بأنها مجرد نمر من ورق، وأنها تمر حاليًا بأطول فترة ركود اقتصادي منذ عام 1999، وأنها تواجه أزمة اقتصادية حقيقية وفعلية طاحنة، بسبب تراجع أسعار النفط، وبسبب العقوبات الغربية المتعلقة بأزمة أوكرانيا وبضم جزيرة القرم.. إن تدهور علاقاتها مع دول الاتحاد الأوروبي وأيضًا مع الولايات المتحدة قد وصل إلى أسوأ مستوى منذ نهايات الحرب الباردة وحتى الآن!
وهذا يعني أنه بإمكان الولايات المتحدة، إنْ لم تكن هناك لعبة مخيفة ستكشفها الأيام المقبلة، أن تُخرج الروس من سوريا بإشارة واحدة، وأن تنهي التدخل الإيراني في هذه الدولة العربية الأساسية والمحورية بإنذار جدي واحد، وأيضًا أن تفرض اتفاقية «جنيف1» والمرحلة الانتقالية والحكم الانتقالي ورحيل بشار الأسد فرضًا.. إن هذه هي الحقيقة، اللهم إلا إذا كنا لا نعرف واقع الحال، وإلا إذا كانت أخطاء باراك أوباما هذه المشار إليها لا هي ليست أخطاء ولا خطايا.. وإن العين بصيرة بالنسبة للإدارة الأميركية واليد قصيرة!
ثم وفي النهاية فهل يا ترى أن الولايات المتحدة كانت مضطرة إلى توقيع اتفاق الهدنة الغامض الأخير الذي وقعته مع روسيا الاتحادية، والذي يحاول الروس ابتزازها من خلال الضغط المتواصل لكشف النقاب عن حقيقة مضمونة.. ثم ولماذا يا ترى قبل الأميركيون في هذا الاتفاق بتأجيل البحث في مصير بشار الأسد مع أنهم بقوا يتمسكون برحيله؟