مصطفى فحص
كاتب وناشط سياسي لبناني. حاصل على الماجستير في الدراسات الإقليمية. خبير في السياسة الخارجية لروسيا بالشرق الأوسط. متابع للشأنين الإيراني والعراقي. وهو زميل سابق في «معهد العلاقات الدولية - موسكو (MGIMO)». رئيس «جائزة هاني فحص للحوار والتعددية».
TT

إيران والتصدي السعودي الصلب

لم يعد وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف ظريفًا، والابتسامة التي لازمت وجهه منذ توليه منصبه غادرته، بعد أن سدّ العرب أبوابهم في وجهه، ففضَّل صاحب «الهوليوود سمايل» اللجوء إلى «الشيطان الأكبر»، بعد أن أطلق الاتفاق النووي موسم الهجرة الإيرانية إلى واشنطن، وفتح له أبواب العودة إلى نيويورك، فأطل من صحيفتها الشهيرة المؤثرة على الرأي العام الأميركي، للغمز من قناة الرياض، في مقال متمم لما تبناه مؤتمر «غروزي»، يتقاطع مع قرار «جاستا» الذي أقرّه الكونغرس، والجدل الأميركي الداخلي بين النخب الثقافية والسياسية وصناع القرار، والميل الواضح لدى بعضهم لجهة التخلي عن الثوابت التاريخية التي حكمت علاقات واشنطن بالشرق الأوسط.
فتى نيويورك، كما يصفه بَعْض منافسيه داخل النظام، بعد أن فشل في تضليل العرب والمسلمين بشعارات نظامه عن الوحدة الإسلامية، والدفاع عن المستضعفين، ومواجهة الأطماع الخارجية، والمقاومة، يحاول تضليل الرأي العام العالمي، وخصوصا الأميركي، من خلال رفع شعارات الحرب على الإرهاب، ولكنه يحاول حصرها بفئة معينة، واتهام دول معينة برعايته، فاختزل ظريف في مقاله الذي نشره في صحيفة «نيويورك تايمز» الإرهاب بـ«داعش» و«جبهة النصرة»، وهو استكمال للحرب الإيرانية على ثورة الشعب السوري، في محاولة حصر المعارضة المسلحة في هذين التنظيمين الإرهابيين، مما يسهل اتهام من يدعم الثورة السورية برعاية الإرهاب، وهي المنصة التي انطلق منها ظريف للنيل من الرياض بسبب وقوفها إلى جانب مطالب الشعب السوري، ودعمها المستمر للمعارضة المعتدلة التي تحمل عبء مواجهة المشروع الإيراني في سوريا، وهو ما يشكل مفتاح سيطرة إيران على شرق المتوسط.
في «نيويورك تايمز» مارس ظريف انتهازية عالية، فغاب عن كلامه ما يروّجه ملالي طهران من اتهامات وتحريض على الرياض، وافتراءات بأنها على علاقة مع الدولة العبرية، وأن بلاده تقاوم المشروع «الصهيو - سعودي» في المنطقة، ففي «نيويورك تايمز» لا يمكن الاستعانة بما يردده خطباء الجمعة في مساجد إيران، من شعارات المقاومة وتحرير فلسطين. لم يجد ظريف في مقاله جملة أو كلمة، ولا حتى حرفا، للمطالبة بالحقوق الفلسطينية، ففي أروقة واشنطن ونيويورك، وحتى تل أبيب، يقدم فيلق القدس كذراع يمكن التحالف معه ضد الإرهاب الذي يحاول ظريف ربطه بالوهابية، وربط الوهابية بالدولة السعودية، ليحمل المملكة مسؤولية ما يجري من إرهاب تحاربه الرياض بيد من حديد، بينما يشارك قادة إيران العسكريون بدوافع مذهبية في قمع مطالب الأغلبية العربية بالحرية والعدالة، وتنفيذ مشروع تفتيت الدولة المركزية لصالح ميليشيات مناطقية طائفية، تتعامل مع الوقائع بعقل أقلَّوِي تقسيمي، ينسجم بعمقه مع المروجين لمشروع دول الأقليات الإثنية والدينية، الذي سيعطي الشرعية للمطالب الإسرائيلية بالاعتراف بيهودية الدولة، ويحافظ على تفوقها لسنوات طويلة.
لم يتأخر ظريف بالكشف عن طباعه، فهو جزء من طبيعة نظامه، وبما أن الطبع يغلب التطبع، يتراجع الرهان على من يمكن اعتبارهم عقلاء داخل تركيبة النظام في طهران، حيث بات من الصعب إيجاد الفرق بين محافظ أو معتدل، وحتى إصلاحي، فالعقل الجماعي الحاكم في إيران ما زال مسكونا بعقد تاريخية، ويرفض الاعتراف بالوقائع العقائدية والديموغرافية والجغرافية التي حكمت منذ قرون علاقته بمحيطه، فهو يحاول تجاوزها مستندا إلى معادلة القوة الكفيلة بإخضاع الكثرة، وتحقيق الغلبة.
عدم قدرة العقل الإيراني على تجاوز هزائم الماضي، من القادسية مرورا بجالديران إلى الحرب مع العراق، تسببت بمضاعفة حالة عدم الانسجام التي يعيشها مع جواره، فعلاقة حسن الجوار التي راهنت عليها دول وشعوب المنطقة، قابلتها طهران بسياسة التدخل في الشؤون الداخلية لكثير من الدول، مما تسبب بحروب طائفية، وعدم استقرار سياسي، من سوريا إلى العراق مرورا باليمن ولبنان، مستغلة حالة عدم التوازن الدولي والإقليمي في التعامل مع قضايا المنطقة، فقررت وضع هذه الدول تحت وصايتها، معلنة انتدابها عليها.
نظرت طهران إلى خريطة المشرق العربي، فأغرتها حالة حواضره، فهي إما محتلة أو مدمرة أو منكفئة، فانتابها شعور الغلبة، فاستعجلت خطواتها، لكنها تعثرت بحجر سعودي صلب قطع الطريق على طموحاتها، وأضاع فرصتها في انتزاع اعتراف عربي شعبي أو رسمي بنفوذها، فصبّت جام غضبها على الرياض التي فرضت شروطها على الاستقواء الإيراني، وجعلت انتصاره مستحيلا.