بجميع المقاييس، يبدو دونالد ترامب، المرشح الجمهوري بالانتخابات الرئاسية، صاحب شخصية من الصعب تجاهلها - هذا هو الدرس الذي بدأت وسائل الإعلام الأميركية الآن فقط إدراكه، مع شهرين فقط يفصلوننا عن يوم انعقاد الانتخابات. أما النتيجة، فهي مزيج من كراهية وقلق وشعور متنام بالإذعان.
ويمكن تقسيم التوجه الذي أبدته وسائل الإعلام الأميركية تجاه ظاهرة ترامب إلى مراحل ثلاث، على النحو التالي:
خلال المرحلة الأولى، جرى النظر إلى ترامب كضيف غير مرغوب فيه، أقحم نفسه على الساحة، لكن سرعان ما سيجري طرده والتخلص منه. في تلك الأثناء، بدا ترامب أمام وسائل الإعلام مادة ممتازة للترفيه والتسلية، فلماذا لا نضحك على نكاته المبتذلة، قبل أن يطرد من الساحة. وبناءً على هذا التوجه، منحت وسائل الإعلام، خصوصا التلفزيون، لترامب مساحة تغطية هائلة، كمادة تسلية وترفيه تضفي لونًا جذابًا على الانتخابات التمهيدية الرتيبة.
وتبعًا لأحد التقديرات التي نشرتها «واشنطن بوست»، فإن التغطية الإعلامية المجانية التي حصل عليها ترامب تجاوزت قيمتها 100 مليون دولار من منظور الإنفاق التلفزيوني الدعائي.
لدى نهاية المرحلة الأولى، أصبح ترامب شخصا مألوفا بمختلف أرجاء أميركا، في الوقت الذي تلاشت فيه أسماء الجمهوريين الـ16 الآخرين الطامحين في نيل ترشيح الحزب، وطواهم النسيان تدريجيًا، وتساقطوا واحدًا تلو الآخر من السباق.
وكانت أولى قواعد الدعاية التي جرى تطبيقها مع ترامب: لا يهم ما يقوله الناس عنك، المهم أنهم يتحدثون عنك!
بحلول بداية المرحلة الثانية، بدا واضحًا أن ترامب فاز بترشيح الحزب الجمهوري له في الانتخابات الرئاسية. وما أثار دهشة وسائل الإعلام اكتشافها أن الاهتمام الذي منحته لترامب أدى في نهاية الأمر إلى فرضه على الساحة السياسية كمرشح لواحد من أكبر حزبين بالبلاد.
وعليه، تضمنت المرحلة الثانية جهودًا منظمة من جانب وسائل الإعلام بوجه عام لسحق ترامب بأي طريقة ممكنة، واختفت النبرة الساخرة التي سادت المرحلة الأولى، لتحل بدلاً عنها نبرة متشائمة حيال ما يمكن لمثل هذا «المتهور» فعله لأميركا حال توليه الرئاسة، وكان الخوف الكامن وراء وسائل الإعلام أن هذا المارق الذي يهاجمونه قد يتحول يومًا ما إلى صاحب السلطة.
بناءا على ذلك، ألقت وسائل الإعلام بكل الاتهامات الممكنة على ترامب، وبلغ الأمر حد تسليط الضوء على مسألة خوضه تجربة الطلاق ثلاث مرات، وعدد من العلاقات العاطفية الفاشلة، بهدف تثبيط علية القوم من المتدينين عن دعمه.
وجرى اتهامه ببيع درجات علمية مزورة من خلال جامعته الزائفة، وجرى طرده من تكساس في أعقاب قضية احتيال لم يبت فيها، والأسوأ أنه استأجر جحافل من المهاجرين المكسيكيين غير الشرعيين لبناء بعض من المشروعات العقارية الحضرية الخاصة به.
كما جرى تداول صور عارية لزوجته الأخيرة، من الواضح أنها خرجت من مصدر روسي، ومرفق بها تقارير حول أنها عملت لبعض الوقت كفتاة مرافقة. ومن أجل تحريض العسكريين على كراهيته، جرى اختلاق قصة حول دفع رشى للحصول على إعفاء من الخدمة العسكرية في أثناء حرب فيتنام.
كما بذلت وسائل الإعلام جهودًا للربط بين ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل والمافيا الروسية، في خضم تقارير حول أن موسكو قد تمارس القرصنة ضد الآلات الانتخابية داخل الولايات المتحدة، بهدف التلاعب في الأصوات، وزيادة أعداد تلك المؤيدة لترامب.
كما أن تصريحات ترامب الساذجة، والمشينة في الوقت ذاته، بخصوص المسلمين، وأصحاب البشرة السوداء، والأصول اللاتينية، استغلتها وسائل الإعلام لتعبئة «تحالف الأقليات» الذي سبق أن ساهم في انتخاب باراك أوباما مرتين.
ومع ذلك، لم تفلح أي من هذه التكتيكات.
في المقابل، أثبت ترامب قدرته على الصمود في وجه الانتقادات، وعدم التأثر بها على نحو ربما فاق رونالد ريغان نفسه الذي سبق أن واجه حملة إعلامية مشابهة عام 1979.
ومن منظور ما، يبدو ترامب في وضع أكثر خطورة عما كان عليه الحال مع ريغان. على مدار عقود، انقسمت وسائل الإعلام الأميركية عبر خطوط حزبية غير معلنة، لكنها واضحة.
ومن بين أوسع 6 صحف يومية انتشارًا، تميل «نيويورك تايمز» و«لوس أنجليس تايمز» و«واشنطن بوست» نحو الحزب الديمقراطي، بينما في المعسكر الجمهوري تقف «وول ستريت جورنال» و«نيويورك بوست». أما «يو إس إيه توداي»، فتتخذ موقفًا وسطًا.
وفيما يتعلق بالتلفزيون، تبدي تقريبًا جميع القنوات التقليدية، علاوة على قناة «سي إن إن» الفضائية، تعاطفها مع الحزب الديمقراطي، بينما تعمل «فوكس نيوز» بمثابة صوت الحزب الجمهوري.
ومع ذلك، نجد هذه المرة أن ترامب أخفق حتى في كسب دعم قطاعات من الإعلام موالية بطبيعتها للحزب الجمهوري. وكان أفضل ما قدمته هذه القطاعات له الامتناع عن توجيه النقد إليه، لكن دون التعامل معه بجدية كسياسي.
وحتى ذلك الوقت، لم يكن هناك مجهود يذكر لدراسة وتحليل ترامب بجدية على نحو هادئ وجدي. كان الجزء الأكبر من وسائل الإعلام يفضل الاستمرار في السخرية، في الوقت الذي استمر أنصار ترامب في مساندته للمضي قدمًا.
وعندما نشرت «نيويورك بوست» مقالاً يحلل بعض جوانب السياسة الخارجية لترامب، أبدت نخبة المثقفين الأميركيين غضبها العارم حيال التعامل مع ترامب وكأن له عقل. وقبيل عقد المناظرات الرئاسية بأسابيع، بدأت المرحلة الثالثة فيما يخص توجه وسائل الإعلام تجاه ترامب. ويمكن أن نطلق على هذه المرحلة «تعلم أن تحب ألمك» حال تحول الخطر إلى واقع. وبذلك، لم يعد التأكيد في عبارة «ماذا لو أصبح ترامب رئيسًا» على «لو».
في الواقع، ليس بمقدور المرء إحصاء عدد الاعتذارات التي قدمها مثقفون وكتاب في مقالات لهم لما سبق أن أكدوه في مقالات سابقة بأن ترامب لا يمكنه «أبدًا، أبدًا، أبدًا، الجلوس بالمقعد الذي جلس عليه ذات يوم جورج واشنطن».
حاليًا، من السهل رصد نبرة إعجاب في خطاب بعض وسائل الإعلام المناهضة لترامب، خصوصا «نيويورك تايمز»، وكثير من المواقع الإخبارية التي يديرها ديمقراطيون راديكاليون. وأبدت هذه الوسائل الإعلامية انبهارها بنجاح ترامب في الفوز بترشيح الحزب الجمهوري له دون تمتعه بحملة انتخابية منظمة بصورة جيدة، وضد رغبة المؤسسة المهيمنة داخل الحزب. علاوة على ذلك، فاز ترامب بترشيح الحزب رغم إنفاقه قدرًا أقل من المال عن منافسيه، ومن دون الحاجة للجوء إلى ماله الخاص.
خلال الانتخابات التمهيدية، استخدم ترامب تكتيكًا يدعى «تينيسي تركي»، وتبعًا له يركز الصياد على اصطياد الطائر القائد لسرب من الطيور، وبالتالي يثير الذعر في باقي السرب ويتشتتون، مما ييسر على الصياد الإيقاع بهم.
وعليه، بدأ ترامب حملته الانتخابية بتركيز جل جهوده على جيب بوش، أشهر المرشحين أمامه داخل الحزب الجمهوري، الذي سبق أن تقلد والده وشقيقه الرئاسة. بادئ الأمر، تجنب جميع المرشحين الجمهوريين الآخرين مهاجمة ترامب، بناءً على ظنهم بأنه بمجرد أن يتمكن من إزاحة بوش من السباق سيكون باستطاعتهم التعامل مع هذا «المهرج» بسهولة.
إلا أنه بزحزحته بوش خارج السباق، ظهر ترامب في صورة «القاتل العملاق» تحيطه مجموعة من الأقزام تتمثل في المرشحين الجمهوريين الآخرين.
حاليًا، تعمد غالبية وسائل الإعلام الأميركية إلى النأي بنفسها بعيدًا عن التوقعات بنتيجة الانتخابات. ولم تعد تنظر إلى ترامب بازدراء، باعتباره مرشح محكوم عليه بالفشل، خصوصا أن منافسه الوحيد الآن هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية السابقة، التي تفتقر هي الأخرى إلى الشعبية. والآن، يتمثل الانطباع السائد في أنه في الوقت الذي تبتهل غالبية وسائل الإعلام، بما فيها جزء كبير من الصحف والقنوات التلفزيونية الموالية للحزب الجمهوري، إلى السماء كي لا يفوز ترامب، فإنها تستعد سرًا للتعايش مع هذا الكابوس حال تحققه.
7:49 دقيقة
الإعلام الأميركي يتعايش مع كابوس ترامب
https://aawsat.com/home/article/735836/%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A-%D9%8A%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%8A%D8%B4-%D9%85%D8%B9-%D9%83%D8%A7%D8%A8%D9%88%D8%B3-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A8
الإعلام الأميركي يتعايش مع كابوس ترامب
التغطية الإعلامية المجانية التي حصل عليها تجاوزت 100 مليون دولار من منظور الإنفاق الدعائي
- لندن: أمير طاهري
- لندن: أمير طاهري
الإعلام الأميركي يتعايش مع كابوس ترامب
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة