طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

الفنان وموجة الناس

لا تصدق أي فنان يقول لك إنه لا يعنيه الانتشار الجماهيري، وكل ما يشغله أن يرضي ذائقته الفنية، العمل الفني في علاقة حتمية مع الناس، طالما هناك مرسل فإن الوجه الآخر للصورة هو المستقبل.
هذه الأيام عُرض آخر فيلم للمخرج يسري نصر الله «الماء والخضرة والوجه الحسن»، الذي شارك في مهرجان «لو كارنو» بسويسرا، إلا أن الجمهور على الجانب الآخر ولا تفرق معه، المهم أن يتماهى مع الشريط السينمائي، ولكن جاءت الإيرادات مخيبة تمامًا للتوقعات.
هل يستقبل الجمهور العمل الفني بمعزل عما يدور في حياته من متغيرات؟ هناك ولا شك عوامل أخرى تلعب دورًا، بل أتصور أن العوامل الاجتماعية والنفسية كثيرا ما تلعب دور البطولة، عندما يحقق عمل فني أرقامًا استثنائية، عليك أن تبحث عن الأسباب الأخرى التي من أجلها قطع الجمهور التذكرة إلى هذا الفيلم أو تهافت على شراء تلك الأغنية.
الرقم هو اعتراف لا يحتمل أي شك بأن هذا المصنف الفني قد أقبل عليه الناس، لا يعني هذا بالطبع أن الرقم هو العنصر الوحيد الحاسم ولا هو أيضًا الأهم، لكنه واحد من المؤشرات التي من الممكن أن ترشدنا إلى قراءة صحيحة لحالة المجتمع.
عام 1970 مثلا انطلقت وبقوة أغنية أحمد عدوية «السح الدح أمبوه» ليرددها الناس، الأغنية لم تتجاوز تكلفتها بضعة جنيهات قليلة لم تتعدَ وقتها 25 جنيها، كان تحليل دلالات الأرقام تعني تغييرًا في مزاج الناس، كلمات عبثية مهما قالوا إن لها أصولا فرعونية، رددها الناس دون أن يشغلهم معناها، لأنهم كانوا في أعقاب هزيمة 67 وفي مرحلة ضبابية، أطلق عليها المحللون السياسيون وقتها «اللا سلم واللا حرب»، الآن حققت أغنية «آه لو لعبت يا زهر» لمطرب جديد اسمه أحمد شيبة نجاحًا طاغيًا، تستطيع أن ترى فيها الشباب الذي يشكل عادة القوة الشرائية الضاربة للأغاني وهو ينتظر ضربة حظ.
المزاج النفسي للمجتمع تقرأه مثلا بأرقام لأغنيات ثلاث تتابعت لسيدة الغناء العربي أم كلثوم، عندما غنت من تلحين محمد عبد الوهاب عام 64 «أنت عمري» حققت أعلى رقم في توزيع الأسطوانات، وظلت في المركز الأول حتى بعد صدور بعدها ببضعة أشهر أغنية «سيرة الحب» تلحين بليغ حمدي، ثم غنت قصيدة «الأطلال» لرياض السنباطي عام 66، لنكتشف أن الجمهور العربي انحاز للفصحى وأطاح بـ«أنت عمري»، وتمر بضعة أعوام وتصعد «سيرة الحب» ومنذ 40 عامًا لا تزال في المركز الأول، ونتأكد أن بليغ حمدي رقميًا له ست من بين الأغنيات العشر التي تحتل المقدمة لأم كلثوم، فهو أكثر ملحن عربي يحصل على أداء علني، أي أن أنغامه باتت هي الأكثر تداولا، وهى شهادة موثقة تؤكد أنه الأقرب للمزاج العربي.
أنا بالطبع ضد الاستسلام المطلق للإيرادات، فكم خدعتنا أرقام، بزغت للحظات في أفلام أو أغاني ومع الزمن تبخرت من الذاكرة، ولكن في نفس الوقت يجب أن ننصت لظلال الرقم، الفنان الذي يستشعر أن الجمهور لم يتوحد مع عمله الفني عليه أن يدرك أنه هناك شيئًا ما خطأ.
وعلى طريقة المثل الشامي الشهير «الكلام إلك يا جارة»، نعم أقصد يسري نصر الله مخرج «الماء والخضرة والوجه الحسن» الذي عليه أن يواجه هذه الحقيقة، وهو أنه ليس على موجة الناس!