خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من ظرفاء السياسة البريطانية.. تشرشل ساخرًا

كان ونستون تشرشل من أروع الخطباء الإنجليز وأبلغهم في سخرياته وطرائفه. ولعبت خطبه وكلماته خلال الحرب العالمية الثانية دورًا كبيرًا في شد عزيمة الشعب البريطاني وتحمل التضحيات والمتاعب. وكان يذيع هذه الخطب من الراديو الذي نصبوه في الثلاثينات. يروي في مذكراته أنه كان في طريقه لإلقاء واحدة من خطبه فاستأجر تاكسيًا لينقله إلى مبنى دار الإذاعة البريطانية في ريجنت ستريت. وعندما وصل إليها أخرج ورقة خمسة باوندات من جيبه وأعطاها للسائق، وقال له «انتظر قليلاً حتى أعود إليك لتأخذني للبيت». أجابه السائق فقال له: «كلا، لا أستطيع أن أنتظرك فأنا سأرجع للبيت حتى أستمع لخطاب تشرشل دون أن يفوت عليّ». انبسط تشرشل مما سمع فأخرج ورقة أخرى بعشرة باوندات وأعطاها للسائق. نظر هذا إليها، ثم قال له «نعم، سأنتظرك حتى تعود وليذهب ونستون تشرشل إلى الجحيم!».
وتألقت بلاغاته في كلماته ومداخلاته في مناقشات مجلس النواب، حيث الامتحان الكبير لبلاغة الأعضاء. تسلم حزب العمال الحكم بعد الحرب، وكان هناك تقنين ونقص في معظم المواد الاستهلاكية، بما فيها الفحم الذي يستخدمه الإنجليز في تسخين حماماتهم والحصول على الماء الحار. انطلق المستر إتلي، زعيم حزب العمال ورئيس الوزراء عام 1950، ليطمئن النواب والشعب عمومًا، ويشد أزرهم في تحمل هذه التضحيات؛ فقال في المجلس، إنه شخصيًا لا يأخذ حمامًا لأسابيع عدة.
ضج المجلس بالضحك والاستنكار. وقف تشرشل فقال: «عندما يتكلم وزراء الدولة بمثل هذه الكلمات باسم حكومة صاحب الجلالة، فلا نستغرب أن نشم هذه الروائح الكريهة منهم، وأود أن أسأل رئيس المجلس فيما إذا كان هناك أي مانع في أن أصف هذه الحكومة فأقول إن حكومتنا حكومة (جايفة)».
كان تشرشل من المتزمتين في استعمال اللغة الإنجليزية التي تتضمن بساطة الكلمات الصغيرة، وتحاشي الاصطلاحات الطويلة والجمل المعقدة. لاحظ على عكس ذلك أن قادة حزب العمال والاشتراكيين عمومًا يميلون إلى استعمال الكلمات والاصطلاحات المستوردة والمعقدة. قال إن وزير المالية يتكلم عن كبح زيادات الدخل الشخصي بدلاً من قوله تجميد الأجور. وبدلاً من استعمال الكلمات البسيطة مثل بيت أو دار نراهم يقولون «وحدة سكنية». علينا الآن أن نغير الأغنية الإنجليزية القديمة التي تقول «البيت، يا حلاوة البيت» home ,sweat home علينا أن نغني فنقول «الوحدة السكنية، يا حلاوة الوحدة السكنية!».
وهنا راح تشرشل يردد أسلوب الاشتراكيين والماركسيين في الكلام، ومضى يقلدهم بأسلوبه الساخر فيشير إليهم بالآيديولوجيين الجماعيين، والمثقفين الممتهنين الذين يحلو لهم الكلام بالحسابات والأصفار والمقاطع الكلامية المعقدة.
وكان المجلس خلال سرده هذا يضج بالضحك والتصفيق والاستنكار! وما أجدر الكثير من كتّابنا أن يتعظوا من سخريته.