أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

اللاهثون خلف العلمانية اللاعنون لها

ليسمح لي أستاذنا الكبير سمير عطا الله استعارة عنوان سلسلة مقالاته الشائقة «هوامش الأسفار ولطائف الأخبار»، التي تروي قصص الصيف وحكايات السفر المثيرة، ما دام أن الصيف قائم وأخبار الأسفار لا تنقطع. والسفر بحكم ظروف الابتعاد عن الأهل والأصدقاء والأتباع والمريدين، هو كاشف لأسرار الشخصية، وكل برقع يغطي ملامح الهوية زائل مع الاختلاط بأقوام مختلفين لا يؤمنون بالثقافة التي يحملها إليهم المسافر ولا تعنيهم أفكاره، فيضطر للتخلي عن بعضها تقربًا إليهم.
هذا قد يحصل مع سائح يغير في ثيابه ولغته ليتمتع بالتنزه والتسوق في بلاد غريبة، أما لطائف الأخبار التي قد تأتينا على هامش السفر فهي التي نسردها ونميزها بحكم طرافتها وما أدخلته علينا من سرور، جزى الله أصحابها خيرًا.
من ذلك ما حصل مع شخصية خليجية دأبت في بلدها على الترويج والتأييد بصوت جهور لجماعة الإخوان المسلمين، ولعن العلمانية التي يرى أنها عدو لئيم يترصد لمستقبل الإسلاميين وحلمهم الذي شاخ للوصول إلى الحكم، في الخليج أو مصر أو تونس أو ليبيا وغيرها من البلاد التي شهدت هزيمة مدوية للجماعة، بعد أن طابت لهم الدنيا إثر ثورات الربيع العربي. هذا الخطاب الآيديولوجي المتكرر نسمعه نحن الخليجيين منذ عقود، صابرين محتسبين، زادت وتيرته في السنوات الخمس الأخيرة، حفظناه عن ظهر قلب، حتى بات مملاً، تشبعنا منه ولم يشبع من ترديده أصحاب المصلحة.
الطريف في القصة كما وثقها موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، الذي أصبح أشبه بجهاز الكشف عن الكذب الذي تعتمده الأجهزة الأمنية، وأصبح معه حبل الكذب أقصر، أن صاحب الخطاب المدوي الذي كان يضج أسماعنا بشتم العلمانية الكافرة، وهذا تعبير عن رأيه لا نستطيع معه اعتراضًا أو شكوى، هرول أخيرًا كغيره ممن يتبنون هذا الخطاب تجاه الجمهورية التركية، للاحتفاء بفشل الانقلاب الذي تقول الحكومة إن جماعة فتح الله غولن، الداعية الإسلامي، هي من قامت به. الموقف الطريف أن صاحبنا همّ باعتلاء المسرح أمام جمع غفير من الجمهور المحتشد المؤيد للرئيس التركي رجب طيب إردوغان، وأمسك بالميكروفون يصيح بأعلى صوته ممتدحًا الشعب التركي العظيم الذي وقف ضد محاولة الانقلاب، لكن يبدو أن الحماسة أخذته بعيدًا عن أهدافه، ونسي أنه أمام جمهور مختلف جاء ليهتف لخطاب مختلف، وأوشك أن يذم العلمانية والعلمانيين كعادته، لولا أن تدارك نفسه في اللحظة الأخيرة واقتطع نصف الكلمة واستبدل العلمانية بالإمبريالية العالمية! ولا ندري حتى الآن ما علاقة الإمبريالية العالمية بالحدث..
ومع أن الموقف مثير للضحك، فإنه لا يفوتنا أن نتصور لو أن الخطيب المفوّه أكمل عبارته وذم في العلمانية، وهو أمام جمهور يؤمن بها بكل أطيافه، فهي تؤمّن له حرية ممارسة المعتقد دون أن يكون محل انتقاد أو مساءلة من أحد، من معتكف في مسجد إلى ملحد لا يعرف لله طريقًا. هذه العلمانية بالنسبة للمجتمع التركي هي صمام أمان لتحقيق السلم الاجتماعي دون أن يستقوي طرف على آخر، حتى المواطن التركي المتدين يرى أنه آمن بوجود نظام علماني يتيح له ممارسة شعائره بحرية. ولأجل ذلك حاول إردوغان أن يقدم نصيحته لجماعة الإخوان المسلمين في مصر إبان توليهم سدة الحكم في 2012، بأن العلمانية خيار آمن لاستقرار حكمهم، لكنهم أضاعوا البوصلة، مثل الغراب الذي حاول تقليد مشي الحمامة، فلا هو ظل محتفظًا بهوية الغراب ولا أتقن مهارة مشي الحمام.
وصاحبنا الخطيب لم يكن وحده الذي يلهث خلف العلمانية خارج بلده، وهو يلعنها في الداخل، فقد شاركه كثير من الخليجيين في احتفالات فشل الانقلاب، متبنين خطابه نفسه، لكن لا أحد منهم يجرؤ وهو في تركيا على أن يتفوه بكلمة واحدة تدين العلمانيين أو تكفرهم، لأن ذلك ببساطة يعد في نظر الأتراك، مجتمعًا ودولة، جريمة يحاسب عليها. مثل هذا الشخص وغيره، يمنون أنفسهم بأن إردوغان سيعيد للإخوان فرصتهم الضائعة، سيحتويهم حتى تقوى شوكتهم ليعودوا من جديد، يظنون أن تلويحه بأصابعه الأربعة في خطاباته هي رسالة لهم بأن قلبه معهم وأنه في صفهم، وهذا ذكاء منه وسذاجة منهم، فمثل أحلام الطيبين هذه لا تتحقق في عالم السياسة القاسي الأشبه بطاولة القمار، كل لاعب يراهن على أوراقه. إردوغان مستمتع بجماهيريته عند بعض الخليجيين، ويطيب له مديحهم ووصفهم له بالخليفة المنتظر، ولا تكلفه هذه الجماهيرية إلا أن يشير إليهم بأصابعه، هذا كل ما سيقدمه لهم، طبعًا إضافة إلى أنه مستفيد كمواطن تركي مخلص لبلده من جذبهم، سياحًا وتجارًا ومستثمرين.
وعلينا ألا ننسى أن إحجام الخليجي عن شتم العلمانية أمام الحشد التركي قد لا يثنيه عن العودة إلى شتمها أمام الخليجيين، حيث لا حسيب ولا رقيب ولا أذن ناقدة، فهو شجاع على تكفير العلمانية في الخليج، ولكنه يجبن عن ذلك أمام العلمانيين، إعمالاً بالمثل الشهير القائل «إن كنت في قوم فاحلب في إنائهم»، وللأسف فإن الإناء التركي ضاق بالهراء والنفاق، والإناء الخليجي متسع له، والبقرة لا تزال حلوبًا.
[email protected]