د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

في نعي أحمد زويل

هذا المقال للمصريين والعرب، فلم يكن الدكتور أحمد زويل ملكا لشعب أو دولة، وإنما كان رمزا لأمة بأسرها واسعة وسع المساحة من المحيط الأطلنطي إلى الخليج العربي. مر الرجل علينا كالشهاب عندما ظهر فجأة في القاهرة في منتصف التسعينات من القرن الماضي حائزا الكثير من الجوائز العالمية في علم الكيمياء، وسرعان ما جاءته نوبل لكي تضعه في المقدمة، ليس فقط بين علماء العرب، وإنما العالم. أيامها تلقفته دول عربية كثيرة، ولكن مشروعه الأساسي كان في مصر. وربما كانت هذه هي اللحظة التي التقيته فيها في عام 1997 عندما تآلف هو مع الأستاذ لطفي الخولي (يرحمه الله)، والأستاذ علي الشلقاني المحامي المعروف (رحمه الله أيضا) على وضع مشروع صار بعد ذلك مشروع مدينة زويل العلمية. كان المشروع للمستقبل بأكثر منه للحاضر، وكان منطلقه أن يكون مشاركا في الحضارة الإنسانية من خلال العلم، بحيث يكون المصريون، ومعهم العرب ليسوا مجرد مستهلكين لما ينتج من أفكار وإبداعات وابتكارات، وإنما منتجين ومضيفين لها. وجرى فيما علمت تسجيل تصميم المشروع في الولايات المتحدة الأميركية في مدينة نيويورك، باعتباره نوعا من حقوق الابتكار في حدّ ذاته.
التقيت به مع صاحبيه، ومن ساعتها جرى حوار امتد لسنوات، بعدها كان دوما عن العلم وعن الآفاق التي وصل إليها، والأهم عن الآفاق التي يجري في اتجاهها. كان الأمر أشبه بما نسمع عنه في عمليات استكشاف الفضاء السحيق، وما نتخيله فيه من نجوم وكواكب وأقمار وثقوب مظلمة أو مضيئة ورحلات تمضي في ملايين السنين الضوئية. لم يكن الجسد الإنساني يختلف عن هذا الكون المعقد، ولا كانت الخلية أو الذرة أقل تعقيدا، ولا ما يجري فيها من تفاعلات. كنا متقاربين في السن، حيث كان الفارق بيننا عامين، ولكنه بشكل أو بآخر كان أكثر شبابا وحيوية، وفيه مسحة وابتسامة أقرب إلى نجوم السينما التي عرفناها في عقود سابقة. ولكن حالته كانت من نوع آخر، فرغم أنه لم يفقد أبدا لا مصريته ولا عروبته من حيث الحنين والانتماء، فإنه كان عالما من ذلك الذي لا يعرف حدودا للعالم. كان ينتمي إلى عصر العقل، عهود التنوير، وثورات متتالية من الاكتشاف والبحث العلمي سواء ذلك الذي ذهب إلى المتناهي في الكبر (الكون) أو المتناهي في الصغر (الخلية). ولكن اختياره والأكاديمي العلمي والعملياتي كان في الثانية، دون أن يفقد للحظة واحدة أن المسافة بين الخلية والكون علميا ليست بعيدة. استكشافها ربما يكون صعبا أو مكلفا وممتلئا بالعثرات، ولكن العلم هكذا ليس سوى حل العقد، ونزع الحجاب عن الغموض.
ورغم أن العلاقة مع العالم الكبير انتهت تقريبا بعد حصوله على نوبل، وتوقفت تسجيلاتي التلفزيونية معه عند حلقتين في برنامج كان يذيعه التلفزيون المصري كان السؤال الجوهري فيها متى يعود، وماذا يفعل إذا عاد. كان لطفي الخولي وعلي الشلقاني قد ذهبا إلى رحاب الله، إلا أن جوهر العلاقة قام على البحث عن إجابة للسؤال كيف نخرج من كهوف التخلف والتقليدية الضيقة إلى العالم الفسيح للعقل والمعرفة؟.. كانت الأمة كلها تتكلم عن الاشتراكية والرأسمالية والديمقراطية والليبرالية دون المرور بمرحلة «العقل» Reason ومرحلة «التنوير» أي المعرفة. ولذلك؛ ربما لم يكن مدهشا مع مطلع العقد الثاني من القرن الحالي أن اجتاحت المنطقة كلها نوبة كاسحة من التنظيمات المتشددة جاءت كالجراد الذي يأتي لكي يأكل الأخضر واليابس فيسقط القتلى بمئات الألوف، والجرحى بالملايين، وتخرج أمم إلى البحر لاجئين ونازحين، بينما رموز الحضارة تقع تحت سنابك الهمجية.
في لحظة هبط فيها الدكتور أحمد زويل إلى ميدان التحرير بعد ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 تصور أن فجرا قد جاءت بأشعة شمس جديدة، أو نسمة ربيع لم تأت فصول مثله من قبل. ولكن خيبة الأمل كانت كبيرة، وبعد سنوات قليلة جلس زويل مع مجموعة من الشباب تقريبا منذ عام، حيث قال: «إن هناك الآن طابورا خامسا لتطفيش الناس اللي فاهمة». ولمن لا يعرف فإن تعبير «الطابور الخامس» ذكره أحد جنرالات جيش «فرانكو» أثناء الحرب الأهلية الإسبانية - كويبو كيللانو - عام 1936 في معرض الحديث عن غزو العاصمة مدريد من الداخل. المعنى في كل الأحوال كان أن هناك قوى هدامة في داخل الدولة تضعف من مناعتها وقدرتها وتجعلها جاهزة إما للانهيار أو جاهزة للغزو الخارجي. في عرف الدكتور زويل، وفي كلماته القصيرة، أن ذلك يحدث عندما يتم «تطفيش الناس اللي فاهمة»، بمعنى آخر التخلص من عقل الدولة وأكثر ما فيها ذكاء. العبارة لها شقان: أولهما أن هناك جماعة في كل دولة «فاهمة»، بمعنى أنهم يعرفون العلاقات بين الأمور المعقدة، وكيفية التعامل معها وهؤلاء هم العلماء وأصحاب المعرفة، وهناك جماعة أخرى تريد «تطفيش» هؤلاء؛ لأن وجودهم يمثل الخطر الأول عليهم شخصيا وليس على الدولة. وإذا انتقلنا من «النظري» إلى «العملي» فإن أول عملية «التطفيش» إلغاء معنى «الفهم»، والذكاء، والأهم المعرفة، ولا يكون ذلك إلا بحالة من التواطؤ الجماعي على الغش بأن يكون من لا يفهم، أو يفهم القليل، هو الأول والعظيم والذكي. ومن هنا يصير «الفاهم» هدفا لجمهرة واسعة من غير الفاهمين الذين لا يؤمنون قط بفكرة أن البشر في حقيقتهم غير متساويين من حيث المهارات والعلم والموهبة، والكد والعمل ومن هؤلاء يتكون «الطابور الخامس» الذي أول مبادئه أن الذي يفهم هو حالة «شاذة» وعلى الأرجح أنها مزيفة، وفي كل الأحوال فإنها تعوق آلة العمل والإنجاز لأنها من ناحية «تفهم» الخلل الذائع، ومن ناحية أخرى أن لديها آراء ووجهات نظر في إصلاح الخلل. أن الخطوة الأولى في رقي وتقدم الدولة هي أن تعرف كيف تحافظ على من يفهمون فيها؛ هي مهمة صعبة، ولكنها ليست مستحيلة.
كان حديث زويل للشباب سببا في استئناف العلاقة مع العالم العظيم بسبب مقال كتبته عن «الطابور الخامس»، حينما اتصل بي في الولايات المتحدة لكي يعلق على المقال. وبالطبع ساعتها كان هناك ما هو شخصي في الحديث تعلق بالإصابة بالسرطان، إلا أن ما كان شخصيا صار علميا، ومرة أخرى أصبحنا على ضفاف العلم والفهم. ولما كنت قد رشحته أكثر من مرة لرئاسة مصر فقد كان حريصا على التأكيد أن السياسة ليست موضوعه، ولكن مدينته العلمية التي هي أكبر من صرح جامعي أو علمي، وإنما فكرة كبيرة لسادة «العقل» والتنوير والاقتراب من ضفاف الحضارة الحديثة. انتهينا بعد ساعتين ونصف الساعة من الحديث على وعد للقاء بالقاهرة لن يحدث، ولكن العظماء مثله قد يرحلون، ولكن أفكارهم تبقى بيننا ليس للشدو والإشادة، وإنما لكي تكون جزءا من نسيج حياتنا. نداء للمصريين والعرب: حافظوا على مدينة زويل العلمية بشرا وحجرا وفكرة وفلسفة رجل عظيم.