خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

ذكريات لندنية: كارل ماركس في تشيرنغ كروس

إذا كان شارع أكسفورد ستريت قد اشتهر في لندن بدكاكين الملابس، فشارع تشيرنغ كروس قد اشتهر بدور الكتب. ويكفي أن تكون فيه مكتبة «فويلز» التي احتلت بنايتين كبيرتين عامرتين بالكتب من كل صنف. يخطر في بالي هذا الشارع في أيام الحرب الباردة والمد اليساري في كل مكان. كانت فيه مكتبة «كوليت» المدهونة باللون الأحمر. فها هنا كنتَ تجد في الخمسينات الكتب والمجلات الشيوعية، منشورات موسكو والمجموعة الكاملة للينين والأخرى لستالين، شيوعية ولكن مجلدة تجليدًا أنيقًا أرستقراطيًا. وكانت طبعًا تعرض الصحف الشيوعية مثل «سوفييت نيوز» و«الديلي وركر» و«تربيون».
كثيرًا ما كنت أدخل هذه المكتبة فأسمع رفيقين بشوارب ستالينية مهيبة يتناقشان في المسألة الوطنية. لا تقترب منهما إلا واستدرجاك للمشاركة في الموضوع. كيف رأيك رفيق؟ سرعان ما تضج المكتبة بالنقاش والزحام.
وطوال الشارع كنت أجد باعة الصحف والمجلات اليسارية. كان هناك رجل أرميني يبيع صحيفة الحزب الشيوعي البريطاني «الديلي وركر» (العامل اليومي). غيروا اسمها فيما بعد إلى «مورننغ ستار» (نجم الصباح)، أملاً في ترويجها بين الجمهور. كنت دائمًا أتساءل: هذا الأرميني الذي يبيع صحيفة شيوعية، لماذا لا يرجع إلى أرمينيا ويستمتع بخيرات النظام الذي تدافع عنه تلك الصحيفة؟ كانت دائمًا تحمل في صفحتها الأولى مربعًا يستجدي القارئ: «تبرع لـ(الديلي وركر)، وإلا فسنتوقف عن النشر».
ولكنني ما زلت أتذكر تلك السيدة المحترمة التي كانت تقف في نهاية الشارع، وبين يديها أعداد من صحيفة «بيس نيوز» (أخبار السلام)، الصحيفة الرسمية لأنصار السلام في بريطانيا. كانت هناك بارانويا في أن النظام الرأسمالي سيشن حربًا عالمية ثالثة ضد الاتحاد السوفياتي. كانت موسكو تنفق الملايين على حركة أنصار السلام درءًا لحرب دامية كانت تعشش عبثًا في أذهان القيادة السوفياتية. كنت أنشر بعض مقالاتي الساخرة في هذه الصحيفة، ولكنهم لم يدفعوا لي قرشًا واحدًا عن أتعابي.
ما زلتُ أتذكر تلك السيدة المحترمة وصوتها الرقيق تناشد الجمهور شراء الصحيفة. «(بيس نيوز)! (بيس نيوز)! اقرأ ما تقوله (بيس نيوز)!».
يظهر أن السوفيات قد توقفوا عن دعم الصحيفة، فأخذت تعاني ماليًا من نفقات النشر، لا سيما وقد هبطت مبيعات الجريدة الأسبوعية. حاول رئيس التحرير زيادة مبيعاتها وترويجها بين الجمهور بنشر بعض الصور الخلاعية في صدر الصفحة الأولى. تقززت تلك السيدة المحترمة من هذا الانحطاط لـ«أخبار السلام»، فأخذت تقطع الصورة الخلاعية، وترمي بها في القمامة وتوزع الجريدة مجانًا على الجمهور، وتدفع من كيسها أثمان العدد. «اقرأ (بيس نيوز) مجانًا! (بيس نيوز) مجانًا». كنتُ أراها وأسمعها هكذا وأنظر حولي عسى أن أرى الصورة الخلاعية التي اقتطعتها من الصحيفة. مجانًا أو بفلوس اضطرت الجريدة في الأخير للتوقف عن النشر.
وكان ذلك إشارة إلى انحسار كل هذا النشاط اليساري في تشيرنغ كروس. ما زلت أنظر لمكان مكتبة «كوليت»، وقد تحول لدكان لبيع الساندويتشات والمشروبات. أنظر وأتحسر على غياب كل ذلك النشاط الفكري العاثر الحظ. أيام وفاتت.