عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

تضليل المشاهد

تلاعبت لغويًا بتعبير «دليل المشاهد» الذي يوفر المعلومات لمشاهدي الشبكات التلفزيونية، أو تحذيرهم من إضاعة وقتهم في متابعة برامج تضللهم بأخطائها المعلوماتية.
تسجيلات البرامج على «يوتيوب» وتعليقات العرب عليها تعكس مأساة جهلهم بالعالم الخارجي وما يعرفونه بـ«الغرب».
التضليل ليس مقصودًا، بل يعود لجهل مقدمي البرامج ومعديها بثقافة وسياسة المجتمع الذي يعيشون فيه وقوانين ودساتير بلدان يحملون جنسيتها.
يمكن تصنيف الشبكات التلفزيونية التي «تُعلم» العرب بالعالم لثلاث.
الأولى: تشمل تلفزيون الدولة أو ما يمول بضريبة مباشرة مثل «بي بي سي» وتحتها قسم تلفزيونات مستقلة.
شبكات عريقة وناجحة أضيفت إليها خدمة باللغة العربية يعدها ويقدمها صحافيون جلبوا من إذاعات وتلفزيونات بلدان عربية أو بريطانيون من أصول عربية.
شبكات كـ«بي بي سي» (أضيفت إليها خدمة التلفزيون العربية في 2008) و«دويتشي فيله» (الخدمة العالمية الألمانية أضافت العربية في 2011) من برلين، و«الفرنسية 24» (2010) و«الولايات المتحدة» (تلفزيون الحرة ممول من الخارجية الأميركية منذ 2004).
الخدمة العربية للاتحاد الأوروبي وإذاعات إيران وروسيا لا تخفي أجندتها الدعائية كبروباغندا (فجة في حالة إيران) أو مضادة لحملة غربية في حرب باردة تجددت كحال تلفزيون «روسيا اليوم» (تبث بالإنجليزية والعربية من لندن إلى جانب موسكو)، أو التلفزيون التركي الذي يبث بالعربية والإنجليزية، وهو دعاية لحزب العدالة والتنمية الحاكم. وهناك تلفزيونات مستقلة لا تدعم من دولة وتعتمد على الدخل التجاري من المشتركين والإعلانات كشبكة «سكاي» التي أضيفت إليها الخدمة العربية بشراكة الشركة القابضة مع كونسورتيوم رجال أعمال عرب.
النوع الثاني: محطات تجارية تدعي الاستقلال، لكنها تدعم من حكومات وأنظمة تروج لخطها السياسي. إيران تدعم تلفزيون «العالم»، و«المنار» (لسان حال «حزب الله»)؛ أو حتى «الجزيرة» القطرية (بالإنجليزية والعربية) أو من حركات حزبية تعارض حكوماتها بتمويل حكومات مناهضة.
الشبكات تفضل لندن رغم تكلفتها المالية، وذلك لسهولة القوانين وتقديس حرية التعبير (لا يحتاج إطلاق حزب أو صحيفة إذنًا من السلطات، فقط البث يحتاج إلى ترخيص مكتب الاتصالات OffCom لتخصيص موجة تردد حتى لا تتداخل مع موجات الإذاعات وخدمات الطوارئ)، وأيضًا عالمية اللغة الإنجليزية واعتبار معظم العرب لندن عاصمتهم التي يطمئنون إليها أكثر من بلدانهم الأصلية، خصوصًا إذا كان نشاطهم مخالفًا لمزاج حكوماتهم.
النوع الثالث: هو محطات استرزاق بأرخص التكاليف وبعضها من شقق أصحابها، ظهرت بعد 11 سبتمبر (أيلول) للاستفادة من تخصيص الحكومات البريطانية المتعاقبة ميزانيات ضخمة لكل من يدعي أنه يناهض التطرف ويضع «المعتدلين» أمام الميكروفون والكاميرا. مستوى هذه المحطات متدنٍ ومزرٍ مهنيًا شكلاً ومضمونًا ولا يظهر فيها إلا محبو الظهور والنرجسيون والذين لا عمل لهم أو من يريدون النيل لفظيًا من خصومهم.
يهمني فقط النوع الأول، لأن مبرر ميزانياتهم الضخمة (تفوق ميزانيات دول أفريقية ولاتينية) هو «تنوير المتفرجين العرب» بالمعلومات التي «تحجبها حكوماتهم» ويفتحون آفاقه على حرية التعبير والديمقراطية والقيم الأساسية للبلد الممول.
تجربتي مع الخدمات العربية البريطانية تفوق مشاركتي مع خدمات التلفزيون الروسي، أو الألماني دويتشي فيله، أو فرنسا 24 (الثلاث شاركت في خدماتها بالإنجليزية ولغة بلادها، وبالعربية).
أشهد صحافيًا بأن البحث المعلوماتي لمعدي ومقدمي برامج هذه المحطات هو الأفضل (بالترتيب التنازلي المحطة الروسية، فالألمانية، فالفرنسية) خصوصًا في حالة التلفزيون الروسي يكون البحث المعلوماتي في دقته كرسالة دكتوراه، والمشاركون الروس يتحدثون الإنجليزية كممثلي مسرح شكسبير، والعربية، وكأنك تستمع لمحاضرة للدكتور طه حسين.
هذه المحطات تستضيف الشخص المناسب لموضوع البرنامج، لا لشهرته بين القراء أو المتفرجين العرب، أو لافتعال معركة كلامية بين وجهتي نظر متعارضتين (في كثير من المحطات العربية يتعمد المقدم اشتباك الضيفين بافتعال خلاف لا علاقة له بمضمون القضية)، بل تعنى المحطات (خصوصًا الروسية والألمانية) بتخصص الضيف المشارك في موضوع أو معرفته به مهنيًا أو لنشره أبحاثًا أو كتبًا في الموضوع.
لذا، عند المشاركة أو متابعة برامجها مشاهدًا ستخرج منها بثراء ذهني ومعلوماتي وتطلع على أمور تفتح آفاقك ومداركك. وحتى إن اختلفت رسالة البرنامج مع مزاجك وموقفك السياسي فإن عمق وثراء المعلومات التي تواجهها ستدفعك للقراءة والمزيد من البحث.
في بقية النوع الأول، ومنها الـ«بي بي سي»، أحيانًا ما تشعر بالحرج من سطحية وضحالة، وأحيانًا الخطأ المعلوماتي في أسئلة مقدمي البرامج. وبصفتي صحافيًا من المدرسة القديمة، يصبح التحدي الصعب هو كيفية تصحيح المعلومات للمشاهدين ضمن إجابة السؤال بلا إحراج زميل صحافي أثناء بث مباشر؛ المفارقة أن بعضهم يقاطعك ممشا يزيد الحرج بتأكيد جهله بالموضوع.
قضايا يضلل فيه المشاهد مؤخرًا، بمقدار ثلاثة أرباع، المعلومات المقدمة هي الإرهاب، وتصويت الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهوجة ما يسمى «الإسلاموفوبيا» المرتبطة بالأولى.
قد يكون الضيف «الخبير» مشهورًا أو نجمًا لدى لجماهير العربية لكن استضافته لمناقشة موضوع خارج تخصصه إحراج يضاف إليه تضليل المشاهد بأسئلة بعض المذيعين.
فقرة في محطة عريقة أعطت انطباعًا أن الزعيمة البريطانية تيريزا ماي ترفض إجراء انتخابات، مثلما قال بروفيسور مشارك، المذيعة لم تذكر أن قانون تحديد الدورة البرلمانية يحول دون إجراء انتخابات قبل 2020 ولا يمكن تعديل القانون إلا بأغلبية الثلثين (أي 433 صوتًا بينما للحكومة 330 مقعدًا برلمانيًا).
أي المصيبتين أعظم: جهل المذيعة بمعلومة موجودة على موقع مجلس العموم البريطاني.. أم معرفتها وعدم توضيح المعلومة للمشاهدين؟
بجانب جذب «معجبيه» الذين يشاركونه الجهل بالسياسة البريطانية، ما الفائدة أو المعلوماتية التي تعود على المشاهد من تكرار دعوة صحافي انفعالي عالي الصوت (ارتفعت شعبيته بين مبرري الانفجارات وأنصار «القاعدة» بسبب مهاجمته أميركا والإمبريالية ومصر والسعودية لأنهم لا يحاربون إسرائيل!) لمناقشة التصويت على الاتحاد الأوروبي أو اختيار زعيم لحزب المحافظين وهو لا يعرف عدد مقاعد مجلس العموم؟
وما الإضافة المعرفية للمتفرج العربي من مشاركة بروفيسور، قد تكون مكانته سامية في برج عاجي، لكن تخصصه في العلاقات الدولية ومعلوماته صفر في قوانين ولوائح المحاكم الإنجليزية التي تتعامل مع شكاوى المسلمين، مما يسمونه «إسلاموفوبيا»؟
ألا يكون من الأفضل استضافة برلمانيين ومتخصصين سياسيين وقانونيين، حتى لو احتاج الأمر إلى ترجمة فورية (رغم وجود بضعة نفر يتقنون العربية) في الشأنين أعلاه، والاستفادة من الشخصيتين النجوميتين في تغطية قضايا إسرائيل وفلسطين، والحرب على «داعش» وسوريا وإيران، خصوصًا أنها تحتل معظم اهتمام الصحافيين العرب ومعظم وقت بث هذه الشبكات؟
أليس ما يجري اليوم تضليلاً للمشاهد؟