في شتاء عام 1997، وبينما كانت وزارة الإرشاد الإسلامي في عهد الرئيس السابق محمد خاتمي منهمكة في إعداد القائمة النهائية للأسماء المحظورة من الكتاب والشعراء، لم يكن ليخطر على بال أحد أن يندرج اسم أمير عشيري على هذه القائمة، المعروفة باسم «أعداء الإسلام والثورة» وتضم نحو 3000 كاتب وشاعر ممنوعين من النشر في إيران.
ويعود السبب وراء ذلك إلى أن عشيري، الذي رحل عن عالمنا مؤخرا عن عمر يناهز 93 عاما، يُعد أحد أباطرة أدب الرعب، ولطالما أشار إلى نفسه بصفته كاتبا يندرج تحت بند «الترفيه»، ولا ترمي كتاباته إلى أكثر من منح قرائه «لحظات قليلة من الإلهاء». ولد أمير عشيري في طهران عام 1923، وهو أحد الكتاب الإيرانيين القلائل الذين لم تغرهم الماركسية ورسالتها عن الثورة العالمية التي اندلعت شرارتها في روسيا القيصرية عام 1917، فضلاً عن أنه لم ينجرف نحو الحركة «الآرية» التي بشرت بإحياء الإمبراطورية الفارسية القديمة ورفض الإسلام بوصفه «آيديولوجيا عربية غريبة».
ولطاما نأى عشيري بنفسه عن الآيديولوجيات وآثر اجتنابها.
وقد كان، كما أخبرني ذات مرة، «مجرد حكاء».
بيد أن اسمه في عام 1997 ظهر في القائمة الإسلامية السوداء؛ نظرا لأن الحكام الملالي وجدوا صعوبة في استيعاب فكرة وجود أدب لا يخدم آيديولوجيا ما.
وما بين عام 1947 الذي شهد نشر أول رواية له بعنوان «شعائر الرعد»، وعام 1979 المرافق لصدور آخر أعماله التي تحمل اسم «ابتسامة في جنازة»، كتب عشيري ما يزيد على 50 رواية، تنتمي جميعها باستثناء اثنين إلى أدب الرعب، وقد انتشرت بسرعة كبيرة وسط قاعدة عريضة من القراء. وبدءا من ثلاثينات القرن الماضي فصاعدًا، نشر الكثير من الكتاب الإيرانيين رواياتهم في شكل حلقات مسلسلة في المجلات الأسبوعية.
وجذبت تلك الحلقات جمهورا عريضا من القراء، لكن قد ضاع أمام شاشات التلفاز بعد عقدين من الزمن، (حيث كان أول ظهور للتلفاز في إيران عام 1955). وكان القراء يهرعون إلى شراء أحدث الإصدارات الأسبوعية من تلك المجلات مثل: «طهران المصور»، و«آسيا الشابة»، و«التقدم» لمتابعة ما حدث للأبطال في حلقات رواياتهم المفضلة.
وفي أوائل مرحلة الخمسينات، تباهت إيران بإصدار أكثر من 20 مجلة أسبوعية، ضمت جميعها بين دفتيها الكثير من الروايات على شكل حلقات مسلسلة. وبعض تلك المجلات سجلت مبيعات تزيد على 30.000 نسخة، وهو رقم نادر الحدوث في إيران اليوم.
وصار بعض الكتاب الذين ينشرون رواياتهم على حلقات مسلسلة في تلك المجلات ذائعي الصيت داخل البيوت الإيرانية، وبرزت من بينهم أسماء، مثل الكاتب «حسين قولي مستعان»، الذي تحدى المجتمع الأبوي من خلال منح المرأة أدوارا رئيسية في ثلاث من رواياته الأكثر شعبية مثل: «شهراشوب»، و«عفت»، و«ربيعة».
في حين تبنى كتاب آخرون من أمثال جواد فضل، كتابة الأدب الرومانسي؛ إذ صورت رواياته، على سبيل المثال رواية «واحد فحسب»، تلميذات المدارس وهن يبكين تحت الألحفة.
بينما مزج البعض الآخر، من أمثال الكاتب حمزة سردادوار، التاريخ مع الأساطير ليحكي بعضا من السرد الإيراني المعقد.
وفي السنوات اللاحقة، استعان جيل الشباب باستخدام الحلقات المسلسلة بصفتها وسيلة غير مباشرة للنقد الاجتماعي، مثلما فعل «صدر الدين إلهي» في روايته «مدينتنا الشقراء» التي جذبت جمهورا عريضا.
وفي رائعته «جلدات في الجنة»، استخدم «ناصر خوديار» الصحافي والمذيع الذي يتمتع بكاريزما عالية، الحلقات المتسلسلة بصفتها سلاحا ضد رفاقه السابقين من الشيوعيين في معركة آيديولوجية لا هوادة فيها ضد الستالينية.
ووجد كتاب آخرون في نشر الروايات المتسلسلة وسيلة للهرب من «الحياة الواقعية» في إيران، التي لم تكن مفروشة بالورود.
ومن حيث الحرفية، تُعد الحلقات المسلسلة للكاتب ماجد دوامي، التي بدت وكأنها تمتد إلى ما لا نهاية، مثل «الببغاء» و«الرجل الملثم من زاينده رود»، الأفضل من نوعها. وتقول الأسطورة إنه عند مرحلة ما سلبت الحلقات النوم من عين رئيس الوزراء آنذاك، ولم يعد قادرا على النوم من دون معرفة ما سيحدث فيها، فقام ببعث فريق خاص إلى دار النشر التي تتولى أمر طباعة المجلة التي تنشر حلقات «الرجل الملثم من زاينده رود» للاطلاع على الحلقة المقبلة قبل طباعتها.
في هذا الصدد، يُعد عشيري صنفا قائما بذاته، حيث كان سيد أدب «الهرب من الواقع»، وإن كان لا يحمل في جعبته رسالة ما، ولم يشأ حتى أن ينشئ حتى شخصيات ثلاثية الأبعاد. وفي بعض الحالات كانت كتاباته أشبه بصور هزلية على شكل كلمات. ولم يعترف مدعو الثقافة قط بقراءة أعماله، وإن قرأوها خلسة، واعترف البعض سرا بأنهم استمتعوا بها كثيرا.
وعلى الرغم من أنه لا تخلو أي رواية من رواياته من وجود جثة واحدة على الأقل، فإن عشيري لم يكن كاتبا للقصص البوليسية على غرار كونان دويل وأجاثا كريستس؛ إذ نشأ عهد الأدب البوليسي الإيراني بعد عقدين من الزمن على يد إسماعيل فسيح بروايته «شراب خام»، فضلاً عن أنه لا يمكن تصنيفه كاتب رعب عاديا من نمط كُتاب مثل إيان فليمنغ أو إيرك آمبلر.
بيد أن ثمة ثلاثة عوامل منحت أعمال عشيري بصمتها الخاصة، وإن كانت في نظري لا تحظى بالتقدير الملائم.
يتمثل العامل الأول في أنه كان يتخيل أحداثا رائعة في سياق يبعد كل البعد عن أي نسخة يمكن تصورها عن الحياة الإيرانية في وقته، ثم يستحضر فيها شخصا إيرانيا عاديا، ويضعه في قلب تلك الأحداث، ويحوطها بوصف دقيق وشديد الواقعية حتى في أدق تفاصيل مسرح الحدث. على سبيل المثال، تجد بطل رواية «إعدام شاب إيراني في ألمانيا»، شخصاً عادياً قد يمكن أن يكون جارك في طهران الذي تشاء الأقدار له أن يحط في برلين بطريقة أو بأخرى، ليجد نفسه متورطًا في مؤامرة معقدة مع النازيين.
أما بالنسبة للعامل الثاني، فيتمثل في أن عشيري لديه موهبة طبيعية في الكتابة بأسلوب بسيط وبلغة فارسية سريعة الخطى خالية من الشاعرية أو الزخرفة الركوكية، التي جعلت من الكتابة بالنثر نوعا من أنواع التحدي. وقد آثر الابتعاد عن استخدام الصفات والظروف، وانتقى من الكلمات أسهلها في جميع الحالات، فما من ورود، ولا عندليب، ولا أضواء القمر، أو نغمات الكمان الحزين في كتابات رائد أدب التفاؤل الساخر.
وأخيرا، اتسم عشيري بالحكمة في منح شخصياته الحرية أكبر مما أتاحها روائيو عصره لشخصياتهم. وفي بعض الحالات، قد يشعر الكاتب وكأن عشيري نفسه فوجئ بتصرفات شخصياته الخارجة عن المألوف في ظروف بعينها.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض روايات الرعب التي كتبها من أمثال «الجاسوس الأزرق العينين» أو «آثار أقدام الشيطان»، كانت مستوحاة على ما يبدو من أفلام هوليوود التي لاقت نجاحا كبيرا في طهران ما بعد الحرب. ومع ذلك يستطيع القارئ تبين أسلوب عشيري الواضح في العمل.
وتبدأ أطول رواية كتبها «صورة قاتل»، بما يشبه لما يعرف بالإنجليزية باسم (ذي شلينغ شوكر The Shilling-Shocker، الذي يطلق على روايات الرعب والعنف الرخيصة في القرن الـ19 في بريطانيا)، ولكنها تتطور إلى تصوير أكثر حبكة للمجتمع الإيراني حينئذ. وثمة عمل طويل آخر بعنوان «سياه خان» (السيد الأسود) وهي إحدى روايتين تاريخيتين كتبهما عشيري.
وكما كتب أيضا سيرة حياة الملك الصفوي العظيم شاه عباس في مجلدين كاملين.
وخلال السنوات الأخيرة، حاول الكثير من الكتاب ، بينهم آر. أصفهاني، السير على خطى عشيري، غير أن أحدهم لم يتمكن من مجاراته، فيما عدا برويز قاضي سعيد، على ما يبدو، الذي إن أُتيحت له الفرصة لربما تخطى مكانة عشيري نفسه، إن لم يقصف قلمه على يد الثورة الإسلامية.
واللافت أنه في وقت من الأوقات كان عشيري يكتب أربع روايات متسلسلة مختلفة لأربع صحف أسبوعية مختلفة في آن واحد، من بينهم «روشان فكر» (المثقف)، و«SepidvaSiah» (أبيض وأسود)، و«اطلاعات» (معلومات).
وكنت قد التقيت عشيري في ستينات القرن الماضي، عندما كنت لا أزال صبيا، في إطار إعدادي تقرير لمجلة «روشان فكر» الأسبوعية. وبدا خلال اللقاء متذبذبًا إلى حد ما، كشجيرة هشة في مهب الريح، غير أنه كما اتضح لاحقًا قد فاق معاصريه في القدرة على الصمود. وعلى الرغم من حظر كتاباته طيلة عقود وإجباره على العيش في فقر مدقع نسبيا، فلا يزال يتذكره الناس بولع شديد في كثير من الأحيان. وتلك هي النعمة التي يهبها الأدب لكل من كرس له نفسه بإخلاص.
أمير عشيري.. الحكّاء الذي رحل عن عالمنا في صمت
أدرج اسمه في قائمة الأسماء المحظورة ضمن 3000 كاتب وشاعر إيراني
أمير عشيري.. الحكّاء الذي رحل عن عالمنا في صمت
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة