سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

هوامش الأسفار ولطائف الأخبار: «رشاش في طوله»

وصل نيكوس كازانتزاكيس إلى مدريد عشية الحرب الأهلية، فسأل مرافقه أونا مونو «إلى أين نحن ذاهبان؟» ويقصد بذلك إلى أي مكان في العاصمة الإسبانية. فأجابه المرافق «إلى الشيطان».
يكتب عظيم اليونان بعد ذلك قائلا: «وفي الواقع كنا ندخل حقا مرحلة تاريخية من جنون الجنس البشري. وكما يحدث في اللحظات العاصفة من تطور النباتات والحيوان؛ إذ تهب عليها رياح فقدان العقل، هكذا يحدث للجنس البشري: إننا نعيش في إسبانيا معالم جنون الجنس البشري برمّته. وسمعتُ كلمات جعلتني أرتجف، ورأيت أطفالا في العاشرة والثانية عشرة يحملون البنادق والأعلام، وقد بدا بوضوح أن الكره قد أفقد وجوههم لون البراءة، وتحولوا فجأة إلى أشرار كبار».
يمضي إلى القول: «اليوم ثمة شيء مرعب يتفجّر فوق سهول إسبانيا وجبالها. لحظة مرعبة من الفوضى. إعصار خطر يتلوّى بعيدا عن كل سيطرة. والأسوأ من ذلك، أنه لم يعد محصورا ضمن حدود إسبانيا. عاودت الاتصال بأصدقائي القُدامى الذين كانوا في الماضي أناسا طيبين، هادئين، يكرسون حياتهم للفنون والعلوم. إنني لا أستطيع التعرف إليهم الآن. فإن عيونهم مليئة بالشرر والرغبة في القتل والتعذيب».
قبل أن آتي إلى مدريد بأسبوع، كنت خارجا من مكتبي في «حي السراسقة»، أهدأ أحياء بيروت وأكثرها أرستقراطية، عندما وجدت مراهقا يحمل رشاشا ويعدو غاضبا، لا أدري، ولا يدري إلى أين. كان صغير القامة والسن على مسدس أو رشاش أو غضب أو حرب، وشعرت بحجم الخطر الذي يلف المدينة وأنا أراه مسرعا نحو الموت أو القتل. وتذكرت الكلام الذي قلته قبل أشهر إلى فؤاد بطرس، العاقل الكبير، الذي لا يبعد منزله من هنا بضع خطوات قليلة. تراه بدأ يقرأ شيئا من الكتب التي صدرت عشية الحرب الأهلية الإسبانية؟ الأفكار تلاحقني إلى مدريد، وأنا أجوب أكثر العواصم الأوروبية ارتفاعا، مما جعل الأندلسيين يقولون في أغانيهم إن «عرش إسبانيا هو الأعلى..».
لكن مدريد تمشي الآن في حذر وتتطلع من حولها: هل تخاف أم تفرح؟ الجنرال فرانكو يدخل في غيبوبة ويخرج من أخرى، رافعا يده الصغيرة في وهن كمن يطالب الزمان بالبقاء في غرفته. وقد انفضّ من حوله أنصاره الذين كان خصومه يسمونهم «المراكشيّين». وقد أنقذ المغاربة حربه، ووفاءً لهم امتنع عن الاعتراف بإسرائيل حتى الدخول في الغيبوبة الأخيرة.
لن أطيل المكوث في مدريد وظلالها. الأندلس ينتظر، وأنا أتساءل مع المتنبي عندما مرَّ في نجد: أطويلٌ طريقنا أم يطول؟
إلى اللقاء..