ساعة بعد ساعة، تتكشف تفاصيل إضافية عن العملية الإرهابية التي ارتكبها التونسي محمد لحويج بوهلال ليل الخميس الجمعة، على كورنيش مدينة نيس الفرنسية المتوسطية التي أوقعت 84 قتيلاً وعشرات الجرحى بينهم كثيرون ما زالوا يصارعون من أجل البقاء على قيد الحياة. والخلاصة التي توصل إليها المحققون مفادها أن العملية التي تبناها تنظيم داعش من خلال بيان بثته وكالة «أعماق» التابعة له لم تكن وليدة ساعتها بل إن بوهلال خطط لها بدقة متناهية.
وفي حين عمدت الأجهزة الأمنية إلى توقيف رجلين إضافيين صباح أمس بحيث وصل عدد الموقوفين إلى سبعة أشخاص (ستة رجال وامرأة واحدة هي زوجة بوهلال السابقة)، ما زالت صورة الأخير «مشوشة» بين من يقول إنه كان بعيدا كل البعد عن التدين والتطرف، ومن يعتبر أنه جنح نحو التشدد في فترة زمنية قصيرة، وهو ما أكده وزير الداخلية برنار كازنوف ليل أول من أمس. وما زال المحققون الذين يعملون تحت إمرة المدعي العام المتخصص بشؤون الإرهاب فرنسوا لامينس يحاولون التوصل إلى رسم صورة واقعية عن توجهات بوهلال من خلال العمل على «استنطاق» هاتفه الجوال، وحاسوبه الشخصي، ومن خلال جمع شهادات العشرات من الأشخاص الذين كانوا في لحظة ما على تواصل معه.
وما يريد المحققون التحري عنه حقيقة هو مسألة وجود علاقة بين بوهلال وتنظيم داعش. وفي أي حال، فإن مانويل فالس، رئيس الحكومة الفرنسية، اعتبر أن اكتشاف التحضير للعملية الإرهابية قبل حصولها وتعطيلها لم يكن ممكنًا.
بموازاة ذلك، يتواصل الجدل بين الحكومة والمعارضة اليمينية المعتدلة واليمن المتطرف. وبينما تسعى الحكومة إلى تركيز الأنظار على الحاجة للوحدة الوطنية ورص الصفوف لمواجهة الإرهاب، فإن المعارضة تسلط الضوء على «تقصير» الحكومة وعدم فعالية تدابيرها الأمنية رغم حالة الطوارئ المعمول بها منذ 14 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. وذهب النائب الحالي والمستشار السابق لرئيس الجمهورية اليميني نيكولا ساركوزي إلى اعتبار أنه لو وضعت الأجهزة الأمنية عسكريا حاملا مدفع بازوكا على مدخل «متنزه الإنجليز» لما استطاع محمد لحويج بوهلال ارتكاب مجزرته المروعة. وأمس، أفرج عن زوجة بوهلال وخرجت طليقته من مركز الشرطة من غير أن توجه إليها أية تهمة. والجدير بالذكر أنها كانت في مرحلة الطلاق من والد أطفالها الثلاثة الذي لم تكن تعيش معه في الفترة الأخيرة.
الثابت حتى الآن، أن مرتكب مجزرة نيس لم يكن فاقدا لقواه العقلية أو أصيب بلوثة جنون، بل إنه خطط للعملية بدم بارد وبوعي كامل، وكان واضحا أنه كان راغبا في أن تُعرف هويته. وبحسب المحققين، فإن العثور على هويته الشخصية وعلى بطاقة الإقامة الفرنسية الخاصة به وعلى رخصة قيادة السيارات، وكذلك على بطاقته الائتمانية وعلى هاتفه النقال في مقصورة الشاحنة المبردة يفيد أنه لم يرد التعتيم على هويته. وبفضل هذه الوثائق تأكدت الشرطة من هوية الإرهابي ما مكنها من التعجيل في توقيف الأشخاص الذين هم رهن الاعتقال.
قبل أسبوع، عمد بوهلال إلى بيع سيارته الشخصية وإغلاق جميع حساباته المصرفية وفق ما كشفته صحيفة «جي دي دي» الفرنسية الأسبوعية، بينما أكدت صحيفة «ديلي ميل» البريطانية، أنه حول الأموال الموجودة على حسابه إلى عائلته في تونس. بيد أن هذه المعلومة لم تؤكدها رسميًا مصادر التحقيق. أما بخصوص الشاحنة المبردة التي تزن 19 طنًا، فإن محمد لحويج بوهلال الذي كان يعمل سائقًا وظيفته إيصال البضائع إلى زبائن الشركة المشغلة في مدينة نيس، فقد استأجر «وسيلة القتل»، أي الشاحنة المبردة، في 11 يوليو (تموز)، أي قبل ثلاثة أيام من ارتكابه العملية. ولم يكن اختيار الشاحنة المبردة وليس أي شاحنة أخرى محض صدفة إذ كان بوهلال قد حضر سلفا سببا يمكنه من الوصول إلى كورنيش مدينة نيس وحجته إيصال المثلجات إلى الفنادق المنتشرة على الكورنيش، رغم إغلاق الكورنيش بوجه السيارات ليلة الاحتفال بالعيد الوطني وإطلاق الأسهم النارية التي يحضرها تقليديًا عشرات الآلاف من المواطنين والسياح.
وأكثر من ذلك، فإن بوهلال الذي كان يقيم في المدينة نفسها، استأجر الشاحنة قبل أسبوع من العملية، وقدم أوراقه ورخصة القيادة الخاصة التي تسمح له باستئجار الشاحنة. ولمزيد من التحضير ووفق ما أظهرته كاميرات المراقبة المنصوبة بكثافة استثنائية في مدينة نيس، عمد الإرهابي إلى استطلاع المكان مرتين لليلتين متتاليتين وهو يقود الشاحنة المستأجرة التي ركنها في مكان غير بعيد عن «متنزه الإنجليز». وليل الاعتداء، أفادت صور الكاميرات بأنه وصل إلى شاحنته على دراجة هوائية قام بوضعها لاحقا داخلها قبل أن ينطلق لتنفيذ مخططه المحكم.
هذه التفاصيل، رغم أهميتها ورغم ما تبينه من النية الإجرامية لمحمد لحويج بوهلال لا تكشف شيئًا عن تشعبات العملية وما إذا كان نفذها بمفرده أم تلقى أوامر بذلك، واستند إلى مساعدة شبكة أو خلية. لكن صحيفة «نيس ماتان» وكذلك قناة «بي إف إم» الإخبارية أفادتا بأنه بعث برسالتين نصيتين من هاتفه الجوال إلى جهتين لم يكشف المحققون عن هويتهما.
وجاء في الرسالة الأولى أنه حصل على «المعدات» من غير أن يفهم ما إذا كان المقصود الشاحنة أم المسدس من عيار 7.65 ملم الذي استخدمه للتصويب على الشرطة وعلى المتنزهين ليل الرابع عشر من يوليو، الذي عُثِر عليه في قمرة القيادة. وثمة معلومة تفيد بأن بوهلال اشترى المسدس من شخصين ألبانيي الجنسية، هما من أوقفتهما الأجهزة الأمنية صباح أمس.
أما الرسالة النصية الثانية فقد جاء فيها ما يلي: «زودني بأسلحة إضافية وسلم ذلك إلى (C)، ويسعى المحققون لمعرفة ما المقصود بهذا الحرف: هل هم شركاء «محليون» ينتمون إلى تنظيم داعش أم فقط أشخاص (متعاطفون) لهم توجهات فكرية متشددة مدوا له يد المساعدة؟ ووفق ما نقل عن محققين في العملية، فإن بعض الأسماء «تبدو مهمة» بمعنى أنها تؤشر لوجود «علاقات» لبوهلال.
بانتظار الحصول على المزيد من التفاصيل، تدفع هذه الجزئيات إلى النظر بجدية أكبر لتبني «داعش» لعملية نيس التي تجعل المسؤولين الفرنسيين يؤكدون ويكررون، وفق ما جاء على لسان رئيسي الجمهورية والحكومة وعلى لسان وزير الداخلية منذ صبيحة الجمعة أن التهديد الإرهابي ما زال جاثمًا على صدر فرنسا، وأنه يتعين على الفرنسيين أن «يتأقلموا» مع وجوده «لفترات طويلة».
في هذا الوقت، ما زال في مستشفيات نيس 18 شخصًا بين الموت والحياة بينهم طفل بحسب ما أفادت به وزيرة الصحة ماريسول تورين، أمس. وقالت الوزيرة إن من بين القتلى 17 أجنبيًا بينهم عشرة من الروس وأربعة تونسيين.
ونقلت الوسائل الإعلامية الفرنسية تصريحات لثلاثة من رجال الشرطة الذين شرحوا تفاصيل تدخلهم لوقف المجزرة، وأفاد هؤلاء بأن السائق كان يتعمد تغيير خط سير الشاحنة من اليمني إلى اليسار، وبالعكس، لإيقاع أكبر عدد من الضحايا وأنهم استمروا في إطلاق النار عليه حتى توقفت الشاحنة، مشيرين إلى أن مدنيًا غير مسلح كان قد تعلق بالشاحنة محاولاً إيقافها، مما يذكر بما فعله ثلاثة من جنود المارينز الذي سيطروا على إرهابي آخر في رحلة للقطار السريع الربيع الماضي بين أمستردام وباريس.
مرتكب مجزرة نيس خطط لعمليته بدقة متناهية
المحققون يتحرون عن علاقة التونسي بوهلال بتنظيم داعش * عدد الموقوفين 6 رجال وزوجة المنفذ السابقة
مرتكب مجزرة نيس خطط لعمليته بدقة متناهية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة