سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

هوامش الأسفار وطرائف الأخبار: «جبران يغيّر طريقه»

الأجمل من «النهار» اليومي في السبعينات كان «الملحق» الأسبوعي. وعلى طريقة غسان تويني في معاملة الصحافيين ورفع شأن المهنة، فقد كان لنا راتب شهري ثابت من «الملحق»، إضافة إلى الراتب العادي. كل شيء بثمنه، وكل جهد بمكافأته.
وكانت للكتابة في «الملحق» نكهة خاصة ومتعة خاصة وحرية أدبية شاعرية لا تتسع لها الجريدة اليومية. لذلك، نويت قبل السفر إلى نيويورك أن أبحث عن مواضيع أدبية «للملحق» فيما أغطي يوميات الأمم المتحدة لـ«النهار». وكان من جملة مشاريعي أن أبحث عمن بقي حيًا من الذين عرفوا جبران خليل جبران عن قرب. وكان هناك اثنان، خليل نجم، الذي كان يملك مطعم الأرز، الذي يرتاده جبران، وداود الخوري، يومها 83 عامًا، وقد عرف جبران وهو شاب يعمل منضِّد أحرف في جريدة «السمير»، التي كان يصدرها الشاعر إيليا أبو ماضي.
لم يكن علي أن أذهب بعيدًا للعثور على داود الخوري، أما خليل نجم، فكان قد تقاعد في ولاية كونكتيكت بعد عمل ناجح في حقل التأمين. عندما توفي أبو ماضي، وأغلقت «السمير»، انتقل داود الخوري إلى العمل في جريدة «الهدى» أقدم صحيفة عربية، التي كان أحد كتّابها أمين الريحاني.
وبعد مرور مائة عام على صدورها، انتقلت ملكية «الهدى» إلى رجل الأعمال فارس أسطفان، الذي استبقى عمالها ومطبعتها وحروفها. وفي عام 1973، كانت لا تزال تصدر، مرتين أو ثلاث في الأسبوع، بأحرف وعناوين السنة الأولى. ومع العمر كان داود الخوري قد أصبح معجم أخبار الجالية، ومرجع الصحافة المغتربة، كما صار يكتب الافتتاحية من دون التخلي عن عمله الأساسي، صف الأحرف. وإلى جانب عمله في الجريدة كان يعمل مترجمًا محلفًا لدى المحاكم. وبما أن أكثر القضايا أمام المحاكم كان أصحابها يمنيين، فقد دخلت على أحاديث الأستاذ الخوري بعض التعابير اليمنية. وفي تلك المرحلة أقيم في بروكلين احتفال للوحدة اليمنية ذهبت أحضره برفقة الصديق الحبيب الدكتور محسن العيني. وخلال الحفل، انتبه إلى أنني أجيل النظر بحثًا عن شيء ما، وكعادته في دفق كل دماثته، قال: «هل تبحث عن شيء»؟ وهمست في أذنه: «عن مواطنكم داود الخوري. أريد أن أعرف رأيه في الوحدة».
لم أجد الكثير عن جبران عند داود الخوري. فقد فهمت منه أن الكاتب كان يتحاشاه: «كل ما شافني بالسوق يغير طريقه». والسوق عند المغتربين اللبنانيين هو الشارع. غير أن جامع الأحرف الأسمر الناحل، كان كنزًا في حكايات المغتربين الأخرى. وخصوصًا في حكايات والديه اللذين عبرا أميركا إلى كولورادو وهو صغير. وفي الثالثة والثمانين كان لا يزال يسميهما: بابا وماما.
إلى اللقاء.