فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

طارق رمضان.. وبؤس التحليل السياسي

بعد الانفجار الآثم بجوار الحرم النبوي تبدّت بعض الوجوه، وعلت أصوات استطاعت خداع الإعلام الأوروبي باسم التسامح، ودعوى انتهاج الفلسفة في التفكير، ووضع الحقوق الإنسانية في الحسبان. طارق رمضان، حفيد حسن البنا، وابن سعيد رمضان سكرتير البنا، والده من أوائل المؤسسين للعمل الإسلامي السياسي في أوروبا، لهج طارق بالإدانة للسعودية محمّلاً إياها وزر التفجير، بالطبع صدم فقط الذين لا يعرفونه جيدا، ومستوى خطابه المراوغ ذي المرجعية الراديكالية، وقد كتبتُ في هذه الصحيفة مادتين عنه في 3 و17 مارس (آذار) من العام الحالي.
النبرة الخطابية والصيغ اللغوية والأدوات المحتالة الفكرية التي يستخدمها رمضان هي نفسها المدوّرة في المعاجم والقواميس الإخوانية، ولم يغادر أرضية هذا التنظيم، وآية ذلك أن الكتب التي ألّفها والحوارات التي أجراها لم يتفوّه بها بكلمة حول النهج السياسي الحديث، وموقفه من الدولة الأوروبية بكل حمولتها المفاهيمية، بل يكشف باستمرار عن تقاطعات، ويذهب بعيدا في سبق الأدبيات التي يتمثلها للغرب بقرون في التشريعات والقوانين، لكنه لا يؤسس لمعنى دنيوي في أي تعاط للواقع الاجتماعي، ومستوى الدنيوية في الواقع.
إنه نسخة محدثة من جده، مع إغراق في الإساءة إلى الممالك النفطية كما يسميها، وفجاجة بكراهية الخليج، وإدانة للسلفية «الحرفية» كما يسميها، من دون أي مساس بالنظام الإيراني الراديكالي سبب الإرهاب الدولي والعالمي، ومن دون وضع أي مشرط على الخطاب الإخواني، وكلما حوصر بأسئلة حول الرؤية السياسية لديه ومن يتبعه، يهرب إلى إدانة السلفية الحرفية، وذوي التوجه «الإسلامي الساذج» كما يعبّر. ولأن الإعلام الأوروبي سخي بالألقاب؛ فهو يقدم باسم «الفيلسوف» ويطرح آراءه بإزاء مفكرين كبار، كما في كتاب «خطورة الأفكار» الذي تضمّن حوارا مشتركا بين طارق رمضان وإدغار موران. والحقيقة من قرأ الكتاب يشعر بالخذلان والبون الشاسع بين العقلين والفكرين والمنهاجين، بين فيلسوف بارع مثل موران له إسهاماته الجلية، وبين منطق طارق رمضان العادي، والكلام الإنشائي، والحديث العاطفي عن السلام المنشود، وادعاء وجود مشروع سياسي حقيقي لديه، ويستخدم أسماء فلاسفة ومفكرين باقتباسات مدرسية من دون فهم جذري للنظرية الفلسفية التي يقدمها، وهذا انعكس على توجهه التحليلي؛ إذ يبادر بالهجوم على دول الاعتدال، وعلى رأسها السعودية، لكنه يجبن عن توجيه النقد الحقيقي المباشر للجماعات الراديكالية، وبخاصة بعد التفجيرات التي طالت أوروبا من باريس إلى بروكسل، لكنه ينشغل بمسائل الأغذية وتيارات اليمين، والأطروحات العلمانية.
قد يجهل وينسى رمضان أمورا كثيرة، لكنه لم يغادر القاعدة الإخوانية الأصلية، فهو وريث بيت إخواني عريق، ويتوقّى سهام الإعلام الأوروبي من خلال مزايدته اللفظية على المسلم غير المسيّس ممن يطلق عليه هو «الإسلام الحرفي»، وفي الكتاب إياه «خطورة الأفكار» يكتب: «العلاقات جيدة مع الملكيات النفطية، وهناك نوع من الحفاظ على الصورة السلبية للإسلام، والتي تطرح إشكالية حقيقية... الأميركيون والصينيون، ليس لديهم مشاكل مع الملكيات النفطية ما دامت تحافظ على مصالحهم، ومن ناحية أخرى هناك صفقات يعقدونها مع هؤلاء (الإسلاميين الرأسماليين) المحافظين للغاية». ص:196.
هذا النص الممل يحمل ذروة البؤس في التحليل الفكري؛ ذلك أن الملكيات العربية، وبخاصة الملكيات النفطية، ساهمت في رفع مستويات التعليم والكفاءة البشرية وتحسين مستوى الطبابة، ودعم المشروعات واحتواء العمالة، وعلى المستوى السياسي استطاعت أن تؤسس لتعامل سياسي معتدل، والمحاور الملكية العربية هي الأكثر قدرةً على إدارة الأزمات وتجاوزها، لم يستطع رمضان أن يتجاوز الكلام المستهلك القديم الشائع في السبعينات الميلادية حول النفط وآثاره الثقافية والاجتماعية من الأطروحات، التي يدعي انتقادها، مثل التيارات الماركسية العربية، وهو يغرق حتى أذنيه في بؤس النظرة للنفط والدول المعتدلة التي تساهم في رفع مستوى حياة البشرية وجودتها على هذا الكوكب.
قدرة رمضان على ليّ الكلمات في الإعلام الأوروبي لم تمنحه الوهج العربي الذي يرغبه، وحين يلقي محاضراتٍ في المنطقة لا تتجاوز رؤيته أي كتيّب إخواني آخر، مع تجديد في العبارات واستخدامٍ اتباعي لا إبداعي في بعض الأدوات. السعودية أهم دولة تحارب الإرهاب في المنطقة وهي شريك استراتيجي لأوروبا وحلف الناتو والولايات المتحدة في الحرب عليه، وقد استطاعت القوى العربية أن تحرس مصر من براثن الإرهاب بعد أن استبدّ بها الحزب الإخواني الواحد، وبسواعد أهلها نهضت مصر من كبوتها، واستطاعت أن تكون قريبة من محورها الطبيعي محور الاعتدال، وتطوير الجيرة المصرية الخليجية، ربما لهذه الأسباب دوّخت الضربات العدلية على الثغرات الفكرية السائبة المتمسحّة بلبوس الدين بعض المحللين ومنهم طارق رمضان، وقد يصحّ في صورة التجنّي تلك قول أبي فراس الحمداني:
أنا الجارُ لا زادي بطيءٌ عليهمُ
وَلا دُونَ مَالي لِلْحَوَادِثِ بَابُ
بَني عَمِّنا لا تُنكِروا الحَقَّ إِنَّنا
شِدادٌ عَلى غَيرِ الهَوانِ صِلابُ