خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

وداعاً زاوية الخطباء

طالما اعتز الإنجليز وتباهوا بزاوية الخطباء Speakers Corner واعتبروها خير تمثيل يجسم ديمقراطية بريطانيا حتى انهم اقترحوا إضافة هذه الزاوية لبرنامج زيارة خروتشوف، اول زعيم سوفياتي يزور الغرب، ليرى ما تعنيه الديمقراطية من حرية التعبير. ولكن غورباشيف شاهد المكان فيما بعد.
تحتل هذه الفسحة من الأرض الزاوية الشرقية الشمالية من متنزه هايد بارك الشهير. هايد بارك وما أدراك ما هايد بارك! ألوف من الانجليز وغير الانجليز تعرفوا بزوجاتهم فيه بعد سويعات من تبادل الغرام تحت أشجاره الباسقة وعلى سواحل بحيرته الحالمة. فيه تستعرض الخيالة عضلاتها وتطلق مدافعها في الاحتفالات الملكية. وحتى السنوات الأخيرة كان المتنزه بؤرة أيضاً للفسق والبغاء.
وما لنا بذلك وموضوعي هو خطباؤها وشعراؤها. فكما قلت، كرس الشعب البريطاني هذه الزاوية من التنزه لسماع الخطباء من اهل السياسة والدين والادب. يعتز الانجليز بها لأن باستطاعة اي انسان ان يصعد على منصة او صندوق فارغ ويتكلم ويخطب في اي موضوع يعجبه ويتحاور مع الحاضرين بكل حرية. يستطيع ان يشتم الحكومة ويندد ويفضح. للسامعين ان يردوا عليه ويكذبوه. ولكنهم إذا تجاوزوا عليه، يخرج من بين الاشجار شرطي ليؤنبه: «لا تقاطع الخطيب وتمنعه من حق التعبير عن رأيه وشتم الحكومة. قف انت في زاوية اخرى واخطب ودافع عنها وقل ما تريد». وقبل ان يخرج الشرطي من بين الاشجار، لم تكن لتشعر بوجود أي شرطة في هذا المكان. يخرج ليضمن حرية الخطباء في الكلام ليقولوا ما يشاؤون وهذا واجبه.
استهوت هذا الزاوية الكثير من زملائي العرب، ولكنني بصورة خاصة تعلقت بها وجعلت مساء كل يوم احد واجباً اتنقل فيها من خطيب لخطيب. استمعت للورد سوبر وتوني بن و»الأسقف الأحمر» وسواهم. سألوني يوماً بعد الغزو، ماذا ترغب ان تفعل اذا عدت لبغداد؟ قلت أن أقف على صندوق كوكا كولا وأخطب مساء كل جمعة في ساحة التحرير.
كذا بلغ إعجابي بتقاليد «السبيكرز كورنر». ولكن يؤسفني أن اقول إن هذه الزاوية كانت واحدة من ضحايا العنف والقمع. فمع تزايد الوجود الاجنبي في لندن ظهر بينهم من أعجبته الحكاية فأخذوا يتدفقون اليها. وكانت ظاهرة لم يروا مثلها من قبل وراحوا يشاركون فيها. هذا خطيب من جماعة القاعدة وذاك من طالبان وآخر من الاخوان او الحوثيين، وبالطبع لم يحتاجوا لكثير من الوقت ليتنازعوا ويتشاتموا واخيراً ليتضاربوا. حتى اصبحت السيطرة عليهم عبأً على الشرطة البريطانية . فاتخذت ما يلزم لإلغاء هذا التقليد البريطاني العريق وتحويل الزاوية للهو والآيس كريم والهمبرغر. وراحت زاوية الخطباء ضحية العنف والكبت وشد اللسان. وكان زوال زاوية الخطباء من اتعس ذكرياتي اللندنية.