سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

هوامش الأسفار ولطائف الأخبار: قتيل أبيض.. قتيل أسمر

لست أذكر كم دامت الرحلة إلى نيروبي. أكثر من أسبوع وأقل من عشرة أيام. تعرفت إليها في عز جمالها وهدوئها، هي التي كانت عاصمة «الماو ماو»، أكثر حركات الاستقلال الأفريقية عنفًا. لكن ها نحن نجلس على كراسي صيفية في منصة الاحتفالات البسيطة وأمامنا الزعيم جومو كينياتا وإلى جانبه ممثل الملكة، دوق أدنبره. كانت أفريقيا كلها تخرج إلى الاستقلال آنذاك، وسط الدماء كما في الكونغو، أو وسط المزاهر والمشاعل، كما هنا.
كان جالسًا أمامي بصفين، وبين المدعوين، وبكل بساطة، نائب الرئيس الشاب توم مبويا. لم أصدق أن هذا مبويا الذي نقرأ عنه دومًا. ولا كان يخطر لي أنني سوف أقرأ بعد سنوات قليلة، أنه اغتيل في وسط نيروبي الجميل. الزعماء يحبون الاستقلال، وليس المنافسة.
لكنني يومها، يسامحني أبي، توقعت مقتل رجل آخر. كانت أول حكومة استقلالية جميعها من الأفارقة، إلا وزير الزراعة الذي نسيت اسمه، لكن شكله لا يُنسى. رجل أبيض، أشيب الشعر، طويل الفودين، كأنه خارج من لوحة استعمارية في حرب البوير، وقلت في نفسي يومها إنه أبقي في الحكومة لمجرد «الديكور»، لكن ذلك ليس ضروريًا. فالدم الأفريقي الحار سوف يتذكر كل يوم أن الرجل من بقايا «شرق أفريقيا البريطاني»، كما كانت تسمى كينيا قبل الاستقلال. وبعد أشهر سمعنا نبأ مقتل وزير الزراعة. وانضوت كينيا في عالمها وقارتها التي سيصبح ملك ملوكها معمر القذافي.
بقيت حكاية واحدة. كنت قد اشتريت في بيروت، استعدادًا للرحلة، كاميرا صغيرة أصور بها مغامراتي في الأدغال. وذات يوم انضممت إلى فرقة من السياح في جولة إلى الغابة المفتوحة قرب نيروبي. أخيرًا، ها أنا في «سافاري» حقيقي أستطيع أن أنازل الأسود وأطارد النمور وأتعرف عن قرب على أسراب الزرافات.
في الغابة، مُنعنا من الترجل إلا في أماكن معينة. أعددت كاميرتي لجميع الاحتمالات، ولم يكن سوى احتمال واقعي واحد. لم تظهر علينا الأسود، ولا النمور. بضعة حمير وحشية والكثير من القرود، وفي البعيد أسراب طيور كثيرة وثيران وحشية ضخمة. لا يهم. أخذت ألتقط الصورة تلو الأخرى. ثم أغير الأفلام التي زودت نفسي بها. واستمرت الرحلة (والتصوير) حتى الغروب. وأخذنا نشهد كيف تأوي الطيور إلى الشجر، وتنعس الحيوانات في مكانها، إلا القرود، فلا تشبع قفزًا ولا فضولاً.
عندما عدت إلى بيروت، اكتشفت أن الاحتمال الواقعي الوحيد، أن جميع الأفلام بيضاء، ولم أعرف كيف ألتقط صورة واحدة.
إلى اللقاء..