ذكرياتي في رمضان محورها واحد وهو أمّي رحمها الله. فهذا الشهر الكريم بكلّ معانيه وقيمه يذكّرني فيها وبالخطّ العريض.
لا أبالغ إذا قلت أن شريط حياتي يمرّ أمامي الآن وأنا أتحدّث عن هذه المناسبة الكريمة. فأتخيل أمّي «تنغل» في البيت وتتنقّل بيننا كنسمة البركة وهي تحضّر أطباق المائدة الرمضانية التي كنا نجتمع حولها نحن العشرة، أشقائي الثمانية ووالدي رحمه الله. كانت لا تتعب ولا تكلّ، وكلّ همّها كان ينصبّ على نقطة واحدة، ألا وهي تحضير طعام يليق بالشهر الكريم وكل طبق من أطباقه يستهدف واحدا منّا.
كانت تحبّ أن تخصّص لكلّ منا الطبق الذي يشتهيه، لم تفكّر ولا مرة واحدة بنفسها، همّها الأول والأخير أولادها وزوجها. كريمة النفس والطباع هي ولذلك كان لرمضان في منزلنا نكهة خاصة، تترجمه أمّي بأياديها البيضاء التي كانت تقوم بفعل الخير بصمت دون أن تجاهر بالموضوع، ولطالما كانت وصيّتها لي بأن أقوم بذلك على طريقتها. وعندما كنت صغيرا وبعد انتهائها من تحضير الطعام كانت تغادر المنزل لبرهة قصيرة حتى تقوم بأعمالها الخيّرة بنفسها. هي لا تحبّ أن نتحدّث عن هذا الموضوع فبرأيها فاعل الخير يجب أن يكون كتوما أولا وكريما ثانيا فيعطي دون أن يعدّ. كانت تعرف أهل الحي بالاسم فتطلّ عليهم في الشهر الفضيل دائما. أكثر ما أتذكّره من تلك الفترة هو اصطحابها لي إلى السوق لشراء الحاجات ومونة الشهر الفضيل. فكنت أحمل لها الأغراض ونترافق سويا ذهابا وإيابا بفرحة كبيرة.
أما المائدة الرمضانية فكانت تحتوي على كلّ ما طاب ولذّ من أطباق، ما زالت رائحتها الشهيّة تسكن حاسّة الشمّ لديّ.
أما صوت الأذان فهو يعيدني إلى تلك المناسبة بقوة، فرمضان يعني لي صوت المؤذّن وأمّي معا. فهما ثنائي لا يفترق أحدهما عن الآخر في ذاكرتي. لقد تغيّر رمضان اليوم عن الماضي. كان شهر الزكاة والعبادة والصوم، أما اليوم فصار موسم مقاهي وتدخين نراجيل، فالمظاهر و«الفشخرة» إذا أمكن القول سادت أيام رمضان مع أن معانيه الحقيقية بعيدة كلّ البعد عن تلك الأمور السطحيّة. رمضان هو الشهر الفضيل للفقير بينما اليوم صار شهر التخمة للغني. فأكاد أشعر أن البعض نسي ماذا تعني هذه المناسبة حتى انغمس في معان أخرى لا تقاربه لا من بعيد ولا من قريب.
الفتوش والدجاج المشوي والكبّة وغيرها، هي أطباق رمضانية بامتياز كانت تصفّها أمي على المائدة بحبّ فنغرف منها الطعام بشهيّة الأطفال التواقين لتذوّق أكلاتهم المفضّلة. أما أكثر الحلويات التي كنت أنتظرها على المائدة فهي حلو «الكلّاج» البيروتي، الذي ما زلت حتى اليوم أحرص على تناوله في هذا الشهر وعلى شرائه لأولادي. لم أستطع مع الأسف أن أحافظ على تقاليد هذا الشهر الكريم مع أفراد عائلتي الصغيرة، ولكننا غالبا ما نجتمع سويا حول مائدة رمضانية تكون المحبّة عنوانها، فمهما حاولت فلن أستطيع أن أقلد أمي.
أما العيدية التي كانت لا تتجاوز الليرتين فكنا ننتظرها عشية العيد، بعد أن نكون قد وضعنا ثيابنا الجديدة للمناسبة قرب وسادتنا لتنام معنا حتى لا يتجرّأ أحدهم ويأخذها على غفلة منّا.
هي لحظات جميلة جدا تأخذني بكلّ تفصيل منها إلى حضن أمي الدافئ. ما لم أكن أحبّه في العيد هو منظر الخروف المذبوح. أما المسحراتي فكنت أخاف من صوته لأنه يستحضر أمامي تلقائيا صورة الكلب الذي يرافقه وكنت أخاف منه.
ولعلّ أجمل أيام العيد كانت تلك التي نمضيها في حرج بيروت وأرض جلول وأحيانا في ساحة الشهداء وسط بيروت. فكان المشوار من منزلنا الواقع في منطقة حارة حريك إلى الأسواق، متعة لا تشبه غيرها ونحن نحمل العيدية ونتزين بثياب العيد. وأول نزهة نقوم بها في هذه المناسبة كانت إلى مدفن جدّي وجدّتي، فذلك كان واجبا محتّما علينا في عيد الفطر المبارك. وكل رمضان وأنتم بألف بخير.
رمضان يعني لي أمي حتى آخر يوم من عمري
رمضان يعني لي أمي حتى آخر يوم من عمري
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة