بعيدًا عن معادلات القوة والضعف، هل أصبح تنظيم «داعش» موضة، للتحريض على القتل، والتمسح بمظلة كل القيم الإنسانية بداية من الدين، والخير والعدل إلى الحب والجنس. وهو ما جعل الكثير من النساء في الكثير من الدولية الأوروبية يرفعن شارة هذه الموضة ويلتحقن بصفوف هذا التنظيم، إما بحثًا عن زواج آمن، وتكوين أسرة مسلمة في كنف مقاتلين أقوياء، وإما لممارسة القتل دفاعًا عن الشارة نفسها. هنا يطرح السؤال نفسه: هل الانفتاح على الإسلام السياسي المعتدل يقطع الطريق على التطرف وعلى الجماعات التي تنسب نفسها زورًا للإسلام؟، وهل الإسلام المعتدل سوف يُعجل التمكين ويولد الوسطية بدلاً من العنف؟، وهل الجماعات الإرهابية سوف تتصدى وتقاوم ذلك؟، جميعها أسئلة تلوح في الأفق من وقت لآخر، خاصة في ظل تفجيرات وعمليات لا إنسانية تقوم بها التنظيمات الإرهابية في جميع أنحاء العالم.
يؤكد الخبراء وعلماء متخصصون في شؤون الأديان أن مشكلة العنف «مركبة»، وأن نجاح الإسلام السياسي المعتدل أمام العنف والإرهاب يتوقف على فصل العمل الدعوي عن السياسي، لكنهم في الوقت ذاته يشددون على «معركة الوعي». إذ يقول مراقبون إنه مع انتشار الفكر المتشدد الذي يتحدث باسم الإسلام كان لزامًا على الهيئات المعتدلة أن تسعى جاهدة لتقديم الصورة الصحيحة للإسلام، وإذا كانت كل مؤسسة تسعى بقدر ما وبحسب طاقاتها في هذا الصدد، ليبقى وسطية المنهج ورسوخ الجانب العلمي فإن هذا كفيل بالتصدي لهذه المهمة.
الدكتور عبد الحليم منصور، أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن بجامعة الأزهر، مع «فكرة الانفتاح على الآخر أيا كان توجهه طالما أنه يؤمن بمبدأ المواطنة». وهو يؤيد «التعايش السلمي الإنساني في سلام وفق المناهج والمبادئ التي جاءت بها الرسالات السماوية». ويتابع أنه «في هذه الحالة يكون الانفتاح على هذا التيار أولى من عزله، والتفاعل معه للتعرف على مبادئه وأولوياته وكل ما يعتنقه أولى من الابتعاد عنه، طالما أنه يؤمن بفكرته بشكل معتدل لا إفراط فيه ولا غلو. إننا ندعو للتعامل مع الآخر أيا كان دينه أو معتقده، طالما أنه يؤمن بمبدأ العيش الإنساني المشترك، وفقًا للقواعد الإنسانية السلمية التي تنادي بها القوانين الدولية والإنسانية في العالم الآن». ثم يضيف: «ومن ثم، فإذا وجد تيار على هذا النحو يؤمن بالوسطية والاعتدال، فلا شك، أن التفاعل معه أولى وأفضل من عزله في ركن الحياة القصي، حتى يفيد ويستفيد وينصهر في بوتقة المجتمع مؤثرًا ومتأثرًا بما يدور حوله، أما التقوقع فله نتائجه السلبية بل والخطيرة على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي».
ويشرح الدكتور منصور أن «الاعتدال يعني عدم المغالاة في الشيء بلا إفراط ولا تفريط، وكذا الوسطية. إذ الوسط من كل شيء خياره كما تقول العرب، ومن ثم فمن ينتهج فكرة الوسطية التي هي شعار الإسلام في قول الله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)، ويؤمن بمبدأ الاعتدال في كل شيء، فهذا بلا شك سواء أكان تيارًا أم مؤسسة أم فردًا، فاهم لدينه فهما جيدًا، لأن الفهم الحقيقي هو الأساس الذي تنبثق عنه كل المنطلقات الصواب والخطأ، وإذا كان الفهم صوابًا ومعتدلاً، كانت المنطلقات على هذا النحو صوابا والعكس بالعكس. ومن ثم فالاعتدال لا يعني العجلة، وإنما الإنسان عليه أن يأخذ بالأسباب، أما النتائج ووقت تحققها فمرده إلى الحق سبحانه وتعالى، يحققها للناس في الزمان والمكان الذي يريده، وفق مشيئته».
وعن آليات نشر الإسلام السياسي المعتدل، قال منصور: «يتحقق ذلك من خلال الفهم الصحيح لتعاليم الإسلام، والفهم الصحيح في نظرته للآخر، والفهم الصواب في التعامل مع الأسباب والمسببات. وعندما يكون الخطاب الديني المعتدل هو الذي يعبر عن جوهر الإسلام ويبتعد عن العنف والتشدد، فضلاً عن الابتعاد عن الجماعات الإرهابية التي تسعى للخراب والدمار، فمتى تحقق ما سبق يمكن إيجاد آلية للوسطية الإسلامية السياسية كما يسميها البعض».
وحول إمكانية تصدى الجماعات المتطرفة لهذا الفكر الوسطي، قال أستاذ الفقه المقارن: «الإرهاب لا دين ولا وطن له، وكل من لا يؤمن بفكر الإرهاب فهو عدو له، وكل من لا يؤمن بفكر الجماعات الإرهابية فهو كافر حلال الدم مستباح العرض والمال. وبلا شك فأي مؤسسة أو تيار يتبنى فكر الاعتدال أو الوسطية ويبتعد عن التشدد والعنف، فإن الجماعات الإرهابية ستقف له بالمرصاد، وتعمل على استئصال شأفته؛ بل ستعمل على محو وجوده حتى تستطيع أن تصل إلى ما تريد».
من جهة ثانية، مع القول إن المعركة الحقيقية التي يجب أن يخوضها العالم بأسره ضد التنظيمات المتطرفة هي «معركة الوعي»، فإن الأفكار التي تدفع للتطرف لن تنتهي على الأرض بقوة السلاح فقط دون إعلان وفاة هذه الأفكار إكلينيكيًا في عقول الشباب، وذلك من خلال تعرية تلك الجماعات وأفعالها أمام الشباب حتى لا يقعوا فريسة للتطرف والإرهاب.
وفي هذا السياق، أظهر استطلاع للرأي أجري أخيرًا على 3500 من الشباب العربي أن 80 في المائة يرفضون تأييد الجماعات المتطرفة وفي مقدمتهم تنظيم داعش الإرهابي، مقارنة بـ60 في المائة فقط في استطلاع العام الماضي، وهو ما يعني أن نسب معارضي «داعش» بين الشباب قد ارتفعت بنحو 20 في المائة خلال سنة واحدة. وأظهر الاستطلاع أن سبب الانضمام للتنظيمات الإرهابية يعود لأسباب اقتصادية، والقليل منهم لأسباب دينية. وبيّن استطلاع آخر للرأي أن الغالبية العظمى من المسلمين البريطانيين تحديدًا بما يعادل 96 في المائة من إجمالي عددهم لا يتعاطفون مع الانتحاريين. وهنا يقول عبد الحليم منصور: «يجب على كل العقلاء في العالم مسلمين وغير مسلمين دعم كل المؤسسات والتيارات التي تتخذ من الوسطية منهجًا، وتؤمن بمبدأ المواطنة، والتعايش السلمي الأمن مع الغير وبمبادئ المساواة، وعدم التمييز بين البشر بسبب الدين، أو الجنس، أو اللون، أو العرق. بهذا وحده يعيش العالم في أمن وأمان، يتعارف فيه البشر ويتعاونون وفق المنهج الكوني والإنساني الذي أرساه القرآن الكريم».
وفي الاتجاه نفسه يقول الدكتور محمود الصاوي، الأستاذ بقسم الثقافة الإسلامية بكلية الدعوة جامعة الأزهر، إن «الإسلام الوسطي هو المنتصر بفضل الله وعونه والتفاف الأمة حوله لأنه الفطرة التي فطر الله الناس عليها. موجات التطرف والإرهاب هذه موجات عارضة وطارئة ولها أسبابها الدولية والمحلية والاقتصادية والاجتماعية، وينبغي أن تدرس بعناية وتدقيق من قبل الخبراء في علوم الشريعة والاقتصاد والسياسة والنفس والجريمة لتجتث جذورها».
وأضاف الصاوي أن «المعركة ثقافية بامتياز، ولا بد من تصحيح المفاهيم وإزالة الإشكالات الفكرية والثقافية التي أوقعت الأمة في هذا الطريق الوعر»، لافتًا إلى أن «جماعات التطرف دخيلة وطارئة وتغذيها أطراف دولية من مصلحتها ألا يعم السلام في أوطاننا، وأن تظل جذوة الفتن مشتعلة في ربوع أمتنا».
واستطرادًا طالب أستاذ الثقافة الإسلامية «بالفصل التام بين العمل السياسي والدعوي منعًا للالتباس وإزالة للإشكالات التي وقعت فيها الأمة بسبب هذا الخلط»، موضحًا «لا يعني هذا أن الإسلام لا علاقة له بالسياسة؛ لكنه يعني أن هناك تخصصات ومجلات متنوعة للعمل. فمن أراد العمل بالدعوة فليتهيأ لها ويتدرّب عليها في المؤسسات الرسمية التي هيأتها أوطاننا الإسلامية لهذه المهمة، ويبتعد تمامًا عن العمل السياسي. وعلى الحزبي كذلك ألا يتدخل في العمل الدعوي ويترك هذا المجال لرجاله وخبرائه المتخصصين فيه لتسلم الأمة من شرور هذا الخلط».
وحول وجود مقاومة من جماعات العنف لهذا الفكر الوسطي، قال الصاوي: «أعتقد أن هناك ضربات قوية وجهت للفكر المتطرف؛ لكن للأمانة أقول لا ينبغي أن نلقي بالعبء كله أو نتوقع حل المشكلة تماما بالطرق الأمنية. لا بد أن تقوم بقية المؤسسات المجتمعية بدورها، فمشكلة العنف مركبة، ومعقدة أسبابها، متشابكة اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية ومحلية ودولية، ولا بد للحلول أن تكون مركبة كذلك، طالما أن الأسباب التي ولدت العنف لم تختف وما زالت قائمة». وأردف: «لا بد من مصالحات وطنية في المجتمعات الإسلامية تفتح ذراعيها لكل من يتلوث بدم ولم يحمل سلاحا ولم يشهره في وجه المجتمع، فلا سبيل للاستقرار الحقيقي والدائم والمستمر إلا بهذا».
المراقبون من جهتهم، طالبوا بإحصائيات عالمية تظهر نسب رفض الشباب سواء المسلمين أو غيرهم. وفي تعريفه لـ«الإسلام السياسي»، قال الشيخ رسمي عجلان، وهو من علماء الأزهر، «إنه مجموعة التنظيمات السياسية التي تعتمد الدين الإسلامي كمرجعية لقيادة المجتمع، ويمكن أن نميّز طيفًا واسعًا نسبيًا لهذه التنظيمات يتراوح بين تلك التي تعتمد الجهاد بمفهومه العنيف كوسيلة وحيدة، وتلك التي تضيف إليه المناورات السياسية والأسلوب الدعوي والتربوي والإعلامي للوصول إلى نفس الغاية، مع إمكانية اللجوء (اضطرارًا) للعنف إذا اقتضى الأمر.. مثال الأولى (القاعدة) وتفريعاتها، ومثال الأخيرة الإخوان المسلمين وتفريعاتهم».
واستطرد: «الإسلام السياسي (المعتدل) حقيقي، بالمقارنة مع الإسلام السياسي المتطرف لا أكثر؛ لكن إذا قارناه مع حالات أخرى يبدو متطرفًا. إذ إنه منذ اللحظة التي تقرّر فيها أن تفرض عقيدتك على الآخرين بأي وسيلة كانت، ترغيبًا أو ترهيبًا، تصبح متطرفًا بالمقارنة مع من يمارس عقيدته كعلاقة فردية بينه وبين ربه ويترك الآخرين أحرارًا يختارون ما يرتضون لأنفسهم بأنفسهم بشرط تطبيق قاعدة (لا ضرر ولا ضرار)».
وحول هل الإسلام السياسي المعتدل بديل جيد خلال الفترة المقبلة، قال عجلان: «من الخطأ التسرع في القبول بأي بديل قبل أن نحدد مقياس الجودة الشاملة لهذا البديل. مثلا إذا كان المقياس هو الواقع المؤلم الذي تفرضه بعض الأنظمة العربية أو الوطنية الفاسدة؛ فأي تغيير يبدو للوهلة الأولى جيدًا. لكن هل يمكن أن يكون هذا المقياس صحيحًا؟ ماذا لو قاد التغيير إلى وضع أسوأ مما كانت عليه الدولة قبل التغيير؟ مثال أفغانستان أو العراق أو السودان أو الصومال، وأيضا في حالة ليبيا، وكان من المحتمل يحدث ذلك لمصر لو طال حكم الإسلام السياسي المتمثل في الإخوان». وأردف: «أعتقد أن المقياس الذي يمكن أن نعتمده لقياس جودة أي بديل مطروح هو أن ننطلق من إمكانية البديل تلبية الحاجات الأساسية لجميع أفراد المجتمع من سكن، وتعليم، وتوفير فرص عمل، وتوفير العلاج للمرضى بالمجاني أو العلاج الاقتصادي، وتوفير الأمان والسلام والحرية العدالة والمساواة الاجتماعية، ومع فتحه لآفاق التطور والمساهمة في الحضارة الإنسانية، من خلال الإبداع الفردي والإنتاج المعرفي، والذي يتطلب الاعتماد على كفاءات علمية عالية لأفراد مختصين بالعلوم الإنسانية والاجتماعية».
وتابع الشيخ عجلان: «لذا أول ما يجب أن ندقق فيه في البديل هو المشروع الفكري الاجتماعي الاقتصادي السياسي التفصيلي الذي يطرح بشفافية على المجتمع، وأن نتحقق من مصداقية المنتمين له، من خلال مراقبة ممارستهم العملية على أرض الواقع، ولا ننخدع كما خدع آباؤنا من قبل بالحماسة والشعارات البراقة، والتعميمات اللفظية والكلمات الرنانة والوعود الكاذبة التي يسوقوا بها أنفسهم. فإذا طبقنا هذا المقياس والفحص المدقق على الإسلام السياسي «المعتدل» فهل يمكن أن يصمد أمام هذا الامتحان؟ وهنا أسقط من الحسبان الإسلام السياسي «المتطرف»، الذي يعلن بوضوح أنه ليس معنيًا أصلاً بالحاجات الأساسية للمجتمع ولا ببناء الدولة والحفاظ على مقدراتها».
الإسلام السياسي «المعتدل».. هل يقطع الطريق على التطرف؟
خبراء وعلماء دين يشددون على «معركة الوعي»
الإسلام السياسي «المعتدل».. هل يقطع الطريق على التطرف؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة