باسم الجسر
كاتب لبناني
TT

قبل القضاء على «داعش» وبعده؟

أتابع، ككثيرين، ما تحمله لنا الشاشة الصغيرة من أخبار وتعليقات وتحاليل لما يحدث في العالمين العربي والإسلامي، وخاصة في سوريا والعراق وليبيا، من تقاتل، وأخرج، كغيري، ضائعا ومتسائلا: ماذا بالضبط يتعرض له ويتمزق بسببه مشرقنا؟ هل هي حرب باردة دولية وإقليمية جديدة؟ أم هي حرب دينية - طائفية - مذهبية؟ أم هي صراع على الحكم؟ أم حرب دولية وإقليمية على الإرهاب؟ إنها كل ذلك معا، وحتى لو كان شعارها الأكبر هو «الحرب على الإرهاب» وخصوصا «داعش»، فإن الشعارات والحوافز الأخرى، الحقيقية منها والخفية، تشوه هذا الشعار، بل تعطله إلى حد ما. وإلا كيف نفسر عجز الدول الكبرى بطائراتها وصواريخها وأسلحتها المتطورة عن التغلب على «داعش»؟ كيف يمكننا أن نفسر سكوت واشنطن عن تدخل موسكو وطهران في سوريا والعراق بهذا الشكل السافر لدعم نظام قتل مئات الألوف وشرد الملايين من أبناء شعبه؟ كيف نفسر سكوت الولايات المتحدة عن «المليشيات الشعبية» التي تفعل بالمواطنين، الذين تدعي مع الجيش العراقي تحريرهم من قبضة «داعش»، أكثر مما فعلته هذه الأخيرة بهم؟
إنها أسئلة مطروحة منذ سنوات، وعلى الأخص في الأشهر والأسابيع الأخيرة، ولا جواب صريحا أو شافيًا عليها حتى الآن.
غير أن هناك من يحاول رسم مآلات - أو سيناريوهات - لما حدث بعد ذاك الربيع العربي وتفاقم أمره في سوريا والعراق وليبيا واليمن. سيناريو أول: تقسيم هذه الدول - الأوطان العربية إلى دويلات طائفية وعرقية، أو تحويلها إلى دول «اتحادية». إلا أن تنفيذ هذا المخرج يتطلب وقف القتال أولا، وهذا ما لا يبدو قريب المنال. سيناريو ثان: التركيز على أولوية القضاء على «داعش»، وهو هدف شبه مشترك بين الدول الكبرى والدول الإقليمية النافذة في المنطقة.
ربما، ولكنه هدف غالي الثمن ويتطلب بعض الوقت لبلوغه، مع العلم بأن القضاء على الاحتلال الداعشي في العراق وسوريا، لا يعني حكما القضاء على الإرهاب الذي بات منتشرا من شمالي أفريقيا وشرقها إلى أفغانستان. وأن القضاء على الإرهاب يفترض اتفاق الدول الكبرى والعربية والإسلامية على تحديد الإرهاب والإرهابيين. وهذا لم يتحقق حتى الآن بالرغم من اجتهادات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
خلاصة الأمر: أي محاولة لفهم ما يدور من قتال وتقاتل في العالمين العربي والإسلامي وفي سوريا والعراق وليبيا، من الصعب وصفه أو تحديده أو تسميته. إنها عدة حروب مجتمعة ومتفاعلة ومؤثرة في بعضها. تتشابك الخيوط الكبيرة الدولية فيها بالخيوط الإقليمية الأرفع، التي تتشابك بدورها بالخيوط الطائفية والمذهبية والعرقية الأرفع. هل يجب حلحلة الخيوط المحلية الرفيعة أولا؟ أم حلحلة الخيوط الإقليمية؟ أم حل العقدة الدولية الجديدة بين موسكو وواشنطن وفرض حل (أميركي - روسي - أوروبي) على المتقاتلين؟
لا أحد يستطيع في الظروف الراهنة وأمام عبثية القتال والتقاتل أن يجيب أو يختار بين هذه السيناريوهات. إنما الأكيد والمفجع - بل الرهيب - يبقى في الحالة التي ستكون عليها بعض الدول والشعوب العربية، ولا سيما تلك التي يدور فيه القتال، عند توقفه بعد سنوات كما يتفق المطلعون والخبراء على التأكيد.
ماذا سيكون حكم التاريخ والأجيال القادمة على هذه الحقبة من تاريخ العرب ولمسلمين؟ يقول البعض إن الشعوب العربية والإسلامية تعرضت عبر التاريخ لنكبات وكوارث لا تقل شدة وقسوة وسفك دماء عن محنتها الحالية من اجتياح المغول إلى الحملات الصليبية وضياع الأندلس والاستعمار الغربي ونكبة فلسطين، ولكنها ما زالت صامدة وحية ومتطورة اقتصاديا واجتماعيا (صحيح إلى حد ما)، ولكن المحنة التي تتعرض لها اليوم هي من نوع جديد أشد خطورة و إيذاء وإضرارا لأنها تحولت إلى حروب داخلية دينية وطائفية وإقليمية ودولية لا يميز فيها بين العدو والحليف.
بعد قرن من النهضة القومية العربية ونصف قرن على بلوغ معظم الدول العربية والإسلامية استقلالها، لم يمر في بال أحد أن تصل بعض الدول والشعوب العربية إلى ما وصلت إليه من شبه انتحار وطني وإنساني اليوم، وإذا كانت إسرائيل والثورة الإيرانية وصراع الدول على خيرات منطقة الشرق الأوسط وشعوبها، من أهم الأسباب المباشرة التي زجت الأمة العربية في هذا المأزق التاريخي، فإن الخلاص الحقيقي منه ومن تماديه، يبقى من مسؤوليتنا، نحن كعرب ومسلمين، وليس مسؤولية غيرنا. أيا كان اسم أو حجم أو نوايا هذا الغير.