إذا كان اسم حكيم بلعباس معروفًا لدى نسبة من جمهور المهرجانات (العربية خصوصًا) ولم يصعد قمم المهرجانات العالمية الكبرى بالقدر الذي يستحقه، وإذا كانت شهرته كمخرج جيد لم تتجاوز إطار نقاد السينما عمومًا، لتصب في خانات جماهيرية واسعة، فإن هذا التقصير ليس من مسؤولية المخرج في شيء.
منذ أكثر من 20 سنة والمخرج المغربي يحقق أفلامه التسجيلية بسيطة الشكل وعميقة المضمون في الوقت ذاته، مما يمنع التباسها أو دخولها أي تبويب ثقافي محض، ربما منع سواه من التمتع بالشهرة التي يستحق. عربيًا، يقع التقصير على عاتق الثقافة العربية وقنواتها الإعلامية التي لا تجد لديها الرغبة في تداول السينما التي يصنعها هو أو سواه من الجادين في الفن وفي البحث الاجتماعي أيضًا.
أخرج بلعباس الأفلام التسجيلية حتى الآن. تخصص فيها وخصّها بالمواضيع التي تتعامل والإنسان المغربي في عالم اليوم. كان ولد في المغرب (في بلدة اسمها بوجاد) ووالده كان صاحب صالة السينما الوحيدة في تلك البلدة. شاهد أفلامًا كثيرة فيها وعندما كبر كان يدرك أنه يريد أن يصبح مخرجًا. درس السينما في فرنسا ثم في أميركا حيث ما زال يقوم بتدريس السينما في مدرسة شيكاغو للفنون حيث يعيش.
بلعباس قرر منذ أفلامه الأولى، مطلع التسعينات، أنه إنما يريد أن ينقل صورة الناس الحقيقية إلى الشاشة. وإذا كانت لكل مخرج سمة مشتركة تجمع بين أعماله، فإن سمة بلعباس هو تناوله لشخصيات عادة لا يفكّر أحد بتناولها. وهذا باد منذ أعماله الأولى، مثل «راعي وبندقية» (1998) ثم «خيط الروح» (2003) و«عليش البحر» (2006) و«شي غادي وشي جاي» وصولاً، ومن بين أفلام أخرى، إلى جديده «ثقل الظل».
الطريقة التي يعاين بها بلعباس هذه الشخصيات هي بدورها واقعية. لا يطلب من شخصياته البسيطة تلك تأدية مشاهد تمثيلية، كما يفعل كثير من المخرجين التسجيليين، إلا لمامًا وعلى نحو حذر. يجلس معهم وبينهم ويصوّر وينتظر الذروة التي سيبلغها حديث ما للقطع منه على مشهد آخر. صلاته مع شخصياته تحسّها وثيقة وليست سياحية. إنه كمن لو أنه يعرفهم قبل التصوير وهذا ناتج عن أنه يحضّر جيّدًا قبل أن يبدأ العمل، وفي سياق هذا التحضير الجيد، يُذيب ما قد يشعر به معظمهم من غربة أو خجل. ويتيح لنفسه الامتزاج مع البيئة التي يعيشون فيها ليتحوّل إلى الطرف القريب من حياتهم الاجتماعية بحيث حين يأتي التصوير يكون المخرج ذلل الصعاب وطوّع نفسه والآخرين في منهج العمل. وهو لا يختار المواضيع التي تنتهي بنشيد بصري من الأمل والبهجة. الكاميرا ثابتة على الوجوه في ذروة مشاعرها خصوصًا عندما لا يعود لديها ما تقوله كما الحال في «شي غادي وشي جاي» و«ثقل الظل». تعيش وعدًا أو حلمًا أو هو، كما الحال في هذين الفيلمين على الأقل، ذكرى رحيل واختفاء استوطن البال ولم يغادره.
بلعباس يلتقط عند الشخصيات التي يصوّرها قسوة الحياة عندما لا يكون بمقدور من وجدوا أنفسهم بلا أمل فعل أي شيء آخر.
في آخر أعماله المنجزة حتى الآن «ثقل الظل» وضع إنساني يلتقطه المخرج بهدوء وروية: في الفترة التي تعرف بسنوات الرصاص في المغرب (ثمانينات القرن الماضي) تم اغتيال واختطاف أناس كثيرين في حملة منظّمة للتخلص من كل من شخص يُعتقد أنه معارض.
بين المخطوفين، ثم المخفيين شاب اسمه حمد إتيكو، كان ترك قريته الأمازيغية صوب المدينة حيث شارك في بعض الاحتجاجات ثم اختفى. والده ما زال يحاول معرفة مكانه إلى اليوم. والدته منعت عن نفسها الطعام منذ ذلك الحين (ثم توفت بعد هذا الفيلم وهي تشعر بحسرة دفينة). والمخرج بلعباس يجد في أملهما المستطرد وتصميمهما على معرفة الحقيقة مادة لهذا الفيلم المبني على مقابلات طويلة تمّت في القرية التي ما زال الأب يعيش فيها. يلتقط حرارة ذلك الأمل وقسوة ذلك الإحباط الماثل. أحد المتحدثين هو الابن الثاني في العائلة الذي يعرف عن نفسه بالقول: «سجين من 1984 إلى 1994 وعاطل عن العمل إلى عام 2003».
يقطع المخرج بين الفينة والأخرى ليزيّن الفيلم بمشاهد من حياة النبات والحشرات. لكن العمل قوي بعواطفه و - إلى حد - بمهارة المخرج في القبض على الذكريات العالقة كما كان فعل في «علاش البحر» و«أشلاء» و«خيط الروح» من قبل، ولو ليس بالنجاح ذاته.
في الصورة: المغربي حكيم بلعباس.. مخرج الصورة ذات الرسالة
في الصورة: المغربي حكيم بلعباس.. مخرج الصورة ذات الرسالة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة