خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من العبادة إلى السياسة

انتقال رجال الدين من عالم العبادة إلى عالم السياسة ظاهرة معروفة في التاريخ. يعطينا العراق الآن مثالاً على ذلك. وفي التاريخ الفرنسي مثال على ذلك في شخصية الكاردينال ريشيليو الذي استعمل كل معارفه وثقافته واطلاعه التاريخي في تسيير شؤون الدولة بنحو مثير للتفكير والتأمل والإعجاب. يرجع إليه كثير من منجزات فرنسا التاريخية بعد أن عينه لويس الرابع عشر رئيسًا لوزرائه في القرن السابع عشر. وقد اشتهر بدهائه وبراعته حتى إن بطرس الأكبر، قيصر روسيا، طلب زيارة قبره خلال زيارته للعاصمة الفرنسية. وهناك أمام قبر ريشيليو قال القيصر لمن حوله من زعماء فرنسا: «آه لو أن هذا الرجل العظيم ما زال حيًا لكنت عينته رئيسًا لوزرائي ووهبته نصف ممتلكاتي لكي يعلمني كيف أدير النصف الآخر».
وهنا عقب أحد الوزراء الفرنسيين على ذلك فقال للقيصر: «الحمد لله يا مولاي أن ريشيليو لم يعد حيًا، وإلا فكم كان من السهل عليه من أن يستخدم دهاءه في الاستيلاء على النصف الآخر»!
بيد أن النجاحات التي حققها الكاردينال في حياته اختلطت بالمكيافيلية والخبث والكيد والقسوة والضرب بيد من حديد على كل المتآمرين على السلطة. ولهذا قيل الكثير في نقده والنيل منه والسخرية عليه، حتى أنه لما ذاع نبأ موته روى النبأ أحد الناس بقوله إن ريشيليو أصبح في الجنة. وكان الجنرال الخطير ترافيل بين الحاضرين، فقال: «إذا كان ريشيليو قد دخل الجنة فهذا لأن أحدًا قد خطف الشيطان أثناء انتقال ريشيليو إلى الآخرة».
التقى الكاردينال يومًا بالشاعر بوالو فقال له: أريد أن أضع اسمك على أحد مؤلفاتي لأعرف رأي الناس على حقيقته فيما أكتب.
أجابه الشاعر قائلاً: «سيقول الناس يا سيدي ما الذي حدث لبوالو ليكتب بهذا التفكير السقيم».
وعندما تحقق موت ريشيليو في الأخير نظم الكاتب الروائي بيير كورناي هذه الأبيات الأربعة في تأبينه:
للتحدث بالخير أو السوء عن الكاردينال الشهير
فلا نثري ولا شعري سيكفيان لذلك
لقد أجاد كثيرًا إليّ، فلا يصح أن أسيء إليه
وقد أساء كثيرًا إليّ، فلا يصح أن أقول خيرًا فيه
مات ريشيليو ودفنوه وحاروا ماذا يكتبون على شاهد قبره، فاقترح أحد الشعراء أن ينقشوا على شاهد القبر هذه الرباعية الشعرية:
ها هنا يرقد الكاردينال الشهير
فعل من السوء أكثر مما فعل من خير
الخير الذي فعله، فعله بسوء
والسوء الذي فعله، فعله بإتقان!