غسان الإمام
صحافي وكاتب سوري
TT

ظاهرة العنف المدني

يسمح دستور الدولة الديمقراطية الغربية للجماعات المدنية بالتظاهر السلمي، كاحتجاج على إجراء حكومي، تعتبره هذه الجماعات ماسًا بحقوقها الطبيعية أو المكتسبة. ويُلزم الدولة بتقديم الحماية الأمنية للمتظاهرين المحتجين، في مقابل التزامهم بعدم اللجوء إلى العنف.
شاهدت بقلق تظاهرات الأسبوعين الأخيرين في الشارع الفرنسي. فقد اتسمت الاحتجاجات بالجنوح إلى استخدام العنف لدى الجانبين: العمال النقابيين والطلاب، وأيضًا لدى قوى الأمن المسلحة بقانون الطوارئ الذي تخضع له فرنسا بعد المذبحة البشرية الأخيرة التي ارتكبتها «داعش» ضد المدنيين في باريس.
ولاحظت أن الدولة تحاول أن تمرر تعديلاً لقانون العمل، ولو اقتضى الأمر عدم مناقشة تفاصيله في الجمعية الوطنية (البرلمان). والغاية تحريك عجلة الاقتصاد الفرنسي، لتمكين أرباب العمل من التمتع بحرية أكبر في صرف واستخدام العمال، كما هو متبع في قوانين العمل الأميركية. والبريطانية. والألمانية.
يعني ذلك أن الدولة الديمقراطية مستعدة لاستخدام العنف ضد الاحتجاج المدني، إذا وصل الأمر بالمحتجين إلى استخدام العنف في الشارع ضد قوى الأمن. وضد الممتلكات العامة والخاصة. ومما يزيد في القلق لدى أمثالي من ملايين المشاهدين أن «قوى الصدام» لدى الاتحادات العمالية المتظاهرة، كانت تخفي وجوهها بأقنعة سوداء.
بشيء من الشرح والتفصيل، أقول إن النضال السلمي النقابي والحزبي حقق مكتسبات وتقديمات اجتماعية عريضة للطبقة العاملة خلال الأعوام المائة الأخيرة. وحافظ عليها الحزب الاشتراكي الفرنسي منذ أن وحده الرئيس الأسبق فرنسوا ميتران. ثم وصل به إلى الحكم عام 1981.
كنت أعمل في لندن في ثمانينات القرن الماضي. وشاهدت كيف تمكنت المرأة الحديدية مارغريت ثاتشر ابنة صاحب المتجر الصغير من «تأديب» اتحاد النقابات العمالية والقيادة اليسارية لحزب العمال، و«تحرير» الاقتصاد البريطاني. مع ذلك، لا تتجاوز قيمة إجمالي الناتج الوطني السنوي في بريطانيا اليوم 2.3 تريليون دولار، فيما يفوقه بقليل إجمالي الناتج الفرنسي (2.4 تريليون دولار)، مقابل 3.6 تريليون دولار قيمة الناتج الألماني.
اعتبر الناتج الوطني المرآة الحقيقية للثروة. ولقوة اقتصاد المجتمع والدولة. وتقف على قمته الولايات المتحدة الأميركية بقيمة تقترب من 17 تريليون دولار. ويليها الاتحاد الأوروبي بـ12.5 تريليون دولار. فالصين بـ7 تريليونات دولار. فاليابان بـ6.5 تريليون دولار. فيما لا تتجاوز قيمة الناتج الروسي حدود 2.1 تريليون دولار.
تعهد الرئيس فرنسوا هولاند بعدم ترشيح نفسه للرئاسة مرة ثانية في انتخابات العام المقبل، إذا لم يتمكن من تخفيف معدل البطالة من 9 في المائة، إلى أقل من 5 في المائة. هذا الطموح يصطدم بالعنف بين الدولة والمجتمع النقابي. لأنه يتطلب تعديل قوانين العمل. والحد من التقديمات والمكتسبات النقابية والعمالية، الأمر الذي أدى إلى توتر ظاهر داخل الحزب الاشتراكي الحاكم، بين الجناح اليساري بقيادة مارتين أوبري عمدة مدينة «ليل» الصناعية في شمال فرنسا. والجناح الليبرالي بقيادة هولاند ومانويل فالس رئيس حكومته والكتلة الاقتصادية الوزارية.
أعود إلى ظاهرة العنف، لأقول بلا تحيز ضد الأجيال الشابة الجديدة في المجتمعات الغربية والعربية، إنها أكثر ميلاً لاستخدام العنف الجماعي والفردي في حياتها اليومية ضد المجتمع المدني والدولة، من الأجيال التي سبقتها.
كان سهلاً على صدام. وحافظ. وبشار. والخميني. وخامنئي. وشارون. وشامير. وبوش الأصغر.. توريط مجتمعاتهم بعنف الحروب. استخدم بشار العنف المسلح ضد شعبه وهو يلوذ اليوم بالأجنبي الفارسي والروسي من نار حربه، في الوقت الذي يتقاتل شباب التنظيمات الدينية فيما بينهم، وهم محاصرون في الغوطة الشرقية. والغربية حول دمشق. وفي حلب وريفها!
الصعود السياسي لمقاول أندية القمار دونالد ترامب إلى رتبة المرشح الرئاسي للحزب الجمهوري الأميركي هو أيضًا ظاهرة عنف، ضد 11 مليون عامل آتين من أميركا اللاتينية. والخوف ينتاب العالم، إذا ما انتخب ترامب رئيسًا يضع إصبعه على زناد القنبلة النووية التي هي رمز العنف الجماعي المطلق المهدد للبشرية. وللحضارة بالفناء. الرئيس الأميركي أوباما الذي زار هيروشيما في اليابان. وفيتنام، رفض الاعتذار عن استخدام بلاده العنف الجماعي المسلح ضدهما في القرن الماضي.
المجتمع الأميركي مثال للمجتمع الذي تنتابه آلام العنف المسلح ضد نفسه. لا يكاد يمضي يوم من دون مجزرة في مدرسة. أو مصنع. أو مكتب. أو مبنى. أو مقهى. أو شارع. مع ذلك لا يجرؤ المشرِّع (مجلسا الكونغرس) على وضع تشريع يضع حدًا لحرية اقتناء السلاح الفردي واستخدامه. لأن لوبي تجار السلاح لا يضاهيه في قوة الضغط والتأثير سوى اللوبي اليهودي الإسرائيلي (إيباك).
ظاهرة العنف لا تقتصر على استخدام السلاح. فالفساد. الرشوة، أمثلة صارخة في مجتمعات باتت تؤمن باستخدام العنف ضد العنف. لم تعد الشرطة المدنية تجتهد في إلقاء القبض على القاتل، لتسليمه إلى العدالة - فهي تعمد إلى قتله فورًا ومباشرة.
ارتفاع قيمة المرأة العاملة في المجتمعات الغنية والفقيرة، تقابله ظاهرة مزج العنف بالجنس، كثقافة سائدة في المجتمعات الغربية. يقبع في السجن حاليًا رئيس إسرائيلي أسبق تعوَّد ممارسة الاعتداء الجنسي على العاملات الموظفات في مكتبه. وسرح صندوق النقد الدولي رئيسه الفرنسي دومينيك ستراوس كاهن، لاغتصابه بالعنف عاملة سوداء في فندقه الفخم بنيويورك. وطردت الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان) نائب رئيسها دنيس بومان العضو في حزب مسالم كحزب الخضر منذ أسابيع قليلة، لتحرشه بالسيدات المحترمات «النائبات» في البرلمان. وتبيع «داعش» الفتيات الإيزيديات الأسيرات بالمزاد العلني. ويجري اغتصابهن إذا لم يتم العثور على شارٍ «شرعي» للحم الإنساني.
ثقافة العنف والجنس تسود عالم اليوم في سلامه وحروبه. لا احترام للإنسان المدني المسالم. ما زالت السيارات تقتل من البشر أكثر مما تقتل «داعش». و«النصرة». و«القاعدة». مع ذلك بات سباق السيارات رياضة عنف ممتعة يتابعها بشغف ملايين الزعماء والصعاليك على الشاشة.
العنف تاريخ هذا العالم المعذب بالقتل. والتعذيب. والاغتيال. القتل والدعارة أقدم حرفتين. يموت هابيل يوميًا طعنًا بسلاح شقيقه قابيل. وما زالت هناك امرأة تنتظر تحت عمود الكهرباء في ليل الشارع البهيم.
خضع العنف لتحليل الفلاسفة. والأدباء. والشعراء. وعلماء النفس والاجتماع. باختصار توصلوا إلى اتفاق «جنتلمان» غير مكتوب: لا بد من ردع الوحش الساكن في عمق النفس البشرية، لمنع الأبرياء من تقليد مرتكبي العنف ضد النفس. وضد الآخرين. فالنفس أيضًا «أمارة بالسوء».