وسط الأطلال الأثرية «للأكروبوليس» في مدينة أثينا الجميلة وقفت استنشق عبق التاريخ وأُمعن في أروقته التي يستطيع الإنسان أن يلمسها بمجرد النظرة لهذا الأثر الجميل، فهذا الحطام يعكس واحدة من أهم الحضارات في العالم وأكثرها تأثيرًا على الحضارة الغربية فضلاً عن كونها تمثل رافدًا مهمًا في نهر الحضارة الإنسانية، فهي قد مزجت بين الفكر والفلسفة والعلم وأسلوب الحياة والبعد الميتافيزيقي، وهي الأمور التي اختلطت لتلد لنا طريقة حياة أصبحت بعد قرون قليلة أساسًا للحضارة الغربية ذاتها. وعلى هذه الأطلال فوق الأكروبوليس تدافعت إلى الأفكار لا سيما أنها المرة الأولى التي أزور فيها أثينا بعد قرابة أربعة عقود درست فيها أهمية هذه الحضارة وفكرها، ولم أتدارك تدافع الأفكار وأنا أتأملها فقررت أن أشرك القارئ في أهمها وهي على النحو التالي:
أولاً: لقد أدركت أنني واقفٌ في قلب الحضارة اليونانية التي سُميت القارة الأوروبية كلها من خلال إحدى أساطيرها، فتشير المراجع إلى أن اسم أوروبا نفسه مشتق من الأساطير اليونانية حيث قام «زيوس» كبير آلهة اليونانيين باختطاف الأميرة الفينيقية الجميلة «أوروبا» وذهب بها إلى اليونان حيث اغتصبها وهو في شكل ثور أبيض، وعندما سعى أخوها «كادموس» للبحث عنها فإنه نشر الكتابة والقراءة في أرجاء الأراضي اليونانية، وقد فسر بعض المؤرخين هذه الأسطورة على اعتبار أن «فينيقيا» – جنوب لبنان في ذلك الوقت – كانت جزءًا لا يتجزأ من منطقة النفوذ المصري، وبالتالي فإن رحلة الأميرة «أوروبا» تعكس الانتقال الثقافي والحضاري الفرعوني من جنوب شرقي المتوسط إلى الشمال الشرقي. وتُلمح الأطروحة مباشرة إلى أن أساس الحضارة اليونانية هو الحضارة المصرية القديمة وبدرجة أقل الحضارات الشرقية الأخرى مثل الفارسية والفينيقية إلخ.
ثانيًا: شعرت للحظة بقيمة أن أكون فوق هذا المكان التاريخي، الذي يُعد قلب الحضارة اليونانية ذاتها بعدما كانت دويلة أثينا هي منارة الفكر والحضارة في ذلك الوقت، وهناك تذكرت أن الحضارة اليونانية أو الإغريقية القديمة تُعد الأساس الفكري للحضارة الأوروبية، وأحد أهم ثلاثة جذور كونت الهوية الأوروبية المستقلة إلى جانب الحضارة الرومانية والتجربة المسيحية في هذه القارة، ومع ذلك فإن الحضارة اليونانية هي الأساس الفكري والفلسفي والثقافي لهذه الحضارة، ويكفي أن الحضارة الرومانية بُنيت على أساس الحضارة اليونانية وتمثل معها المفهوم الكلاسيكي لهذه الهوية، الذي صار أساسًا لعصور النهضة في القرن الخامس عشر.
ثالثا: تذكرت والهواء الرطب يداعبني وأنا أشتم هواء البحر المتوسط النقي أن الفكر والثقافة اليونانية لم يمثلا فقط أساس الهوية الأوروبية، ولكن الحضارة اليونانية كانت تمثل أيضًا إحدى ركائز تطور الديانة المسيحية ذاتها، فأوائل الأناجيل كتبت باللغة اليونانية، التي أصبحت قاعدة مهمة لتفاسير الكتاب المقدس فأخذت اللاتينية منها وليس العكس، ومثلت هذه اللغة في مناسبات كثيرة الصخرة التي اختلف حولها أقطاب الكنائس في تفسيراتهم المختلفة، وعلى رأسها كنيسة القسطنطينية وهي يونانية الأصل والطابع والهوى منذ بداية عهدها، وكانت تلعب دورًا محوريًا في تطور العقيدة إلى أن تبوأت كنيسة روما الصدارة الدولية على الأقل من الناحية السياسية بدخول القرن الثاني عشر الميلادي.
رابعًا: تذكرت أنني أقف على تبة تاريخية ارتبط اسمها بالعاصمة أثينا، التي مثلت أساسًا مهمًا لكثير من المفاهيم السياسية منذ أن بدأت عملية الاستيطان اليوناني في منطقة شبه جزيرة المورة، وحولها من جزر الأرخبيل، وقد كانت التجمعات السياسية والاجتماعية اليونانية أهم ما صدرته اليونان لأوروبا فيما بعد، فأهم معطيات الحضارة اليونانية للهوية الأوروبية كان مفهوم الدويلة اليونانية City State، وكانت «دويلة أثينا» وهي أهم التكوينات السياسية، ومثلت أصغر دولة بمفهومنا الحالي في التاريخ، ولكنها تضمنت السمات الأساسية للدولة من حيث الإقليم والشعب والحكومة والسيادة المنفصلة التي أصبحت فيما بعد وفقًا للقانون الدولي تمثل الدولة مكتملة الأركان، وهي الدويلات التي كونت نظامًا إقليميًا مختلفًا من العلاقات الدولية، فكل دويلة كان لها استقلالها ولكنهم جميعًا كانوا يعيشون في عملية اعتماد متبادل بينهم Interdependence، لأنهم كانوا يكونون الهوية اليونانية المشتركة من خلال نظام معقد للعلاقات التكاملية فيما بينهم، وهذا ما جعل نظريات العلاقات الدولية الحديثة تبدأ بنيانها الفكري على فك أنماط تفاعل هذه المنظومة اليونانية بشكل يكاد يكون حرفيًا.
خامسًا: ولعل البعد العسكري الموحد كان من أكثر العناصر التي منحت الهوية اليونانية استقلالاً، فلقد حمت تطبيقات مفاهيم «الدفاع الجماعي Collective Defence» هذه الثقافة من المحاولات المستميتة للفرس السيطرة على اليونان، خصوصًا بعد معركتي «ثيرموبولي» و«سالاميس» اللتين أوقفتا الحملات الفارسية لاحتلال اليونان وثقافتها، وحتى عندما انقسم اليونانيون على أنفسهم في «الحروب البلوبونيزية»The Peloponnesian War، فإن عداواتهم لم تمنعهم من التحالف الفوري والقوي لمواجهة العدو الخارجي الذي يهدد ثقافتهم الجماعية، بل إن هذا العدو هو الذي خلق لهم مفهوم الهوية المشتركة والتي تطورت لأن تصبح أول قومية أوروبية معروفة.
سادسًا: فوق هذه التبة تذكرت الإسكندر الأكبر فافترشت رؤيتي لأعماق الأفق من حولي في محاولة عابثة لإدراك بُعد فتوحات أول قائد عسكري يسعى للسيطرة على العالم المعروف فأفشل بطبيعة الحال، لأن هذا الرجل وصلت فتوحاته إلى الهند وغزواته إلى قرب حدود الصين، فهذا النموذج الفريد لم يستطع أي قائد عسكري أن يتخطى حجم فتوحاته إلا شخص واحد وهو «جنكيز خان»، ولكن هذا لا يحرم الإسكندر من كونه في واقع الأمر الشخص الوحيد الذي حكم العالم المتحضر وحده، مؤمنًا بنسب إلهي من وحي خيال أمه، ولكن هذا الإيمان هو ما دفعه للسعي لنشر الثقافة اليونانية في كل ربوع مملكته. ومع ذلك فهو أول مثال للبشرية يعكس حقيقة أساسية، وهي أنه ما من دولة واحدة قادرة على بسط نفوذها الثقافي والفكري والعقائدي على العالم أجمع، فسرعان ما انحسرت إمبراطوريته وتفتت بعد مماته المبكر.
سابعًا: فوق هذه التبة العالية ووسط الحطام تذكرت سنوات ممتدة من دراسة وقراءة الثقافة اليونانية وأثرها المباشر على العالم كله في جميع المجالات، فكانت بحق المنارة الثقافية والتثقيفية في ذلك الوقت، وهنا تذكرت سوفوكليس أو «أبو التراجيديا»، الذي دمعت عيناي في صباها وهما تقرآن قدرته على بث التعاسة في الأدب الراقي، كذلك تذكرت أن اليونان كانت مركزًا للفن والأدب والفلسفة والرياضيات وعلم الفلك والدراما وغيرها من المجالات التي تشكل الثقافة الشاملة والهوية المختلفة، وليس من المبالغة التأكيد على أنه قلما تجود ثقافة واحدة بهذا الحجم من الكتاب والفلاسفة والفنانين والأفكار في كل المجالات مثلما حدث مع الثقافة اليونانية، فلو أخذنا الفلسفة وحدها سنجد سقراط وأفلاطون وأرسطو يمثلون الثلاثي الأساسي الذي بُني عليه علم الفلسفة والسياسة والمنطق، ليس فقط في اليونان بل في ربوع واسعة من العالم كله حتى يومنا هذا، فعلم الفلسفة يبدأ بهم، فغالبًا لا تبدأ أية فلسفة إلا من حيث انتهي الفلاسفة الإغريق. أما في مجال الأدب والدراما فلا جدال على أن أمثال الشاعر والأديب «هومير» صاحب مخطوطتي «الإلياذا» و«الأودسا»، وأريستوفانيس يمثلون مع غيرهم من اليونانيين أساسًا أدبيًا مهمًا للحضارات المختلفة.
وبعد هذا الكمّ الهائل من الأفكار والمشاعر انقطعت أحبال فكري وتأملاتي وأنا أحدث أحد الأشخاص لأقول له إن أغرب ما في الأمر هو أن التأثير اليوناني على أوروبا لم يكن تأثيرا ماديًا ملموسًا، فعلى عكس الحضارة الرومانية فإن الحضارة اليونانية لم تنتقل لأوروبا من خلال الوجود الفعلي أو العسكري للجيوش اليونانية، فمنذ نشأة النظام الإقليمي اليوناني فإن قبلته السياسية والعسكرية لم تكن غربًا، بل كانت نحو الشرق والجنوب اللذين اعتبرهما رواد اليونان «العالم المتحضر» في ذلك الوقت، أما الغرب فلم يكن منطقة مكتشفة بالنسبة لهم إلا في إطار استثناءات محدودة لأسباب متعلقة بالتجارة وبعض المستعمرات المتناثرة، فالقارة الأوروبية، خصوصًا غرب أوروبا لم تكن العالم المتحضر بالنسبة لليونان، تمامًا مثلما اعتبر الرومان شمال ووسط أوروبا أقاليم غير متحضرة تقطنها شعوب «بربرية» Barbarians، ومع ذلك فقد انتقلت الحضارة اليونانية وثقافتها للغرب من خلال التجارة مع شبه الجزيرة الإيطالية ومنطقة جنوب فرنسا، وهنا تفرض نفسها فكرة المقارنة بين علاقة اليونان بشبه الجزيرة الإيطالية (التي أصبحت مركز الدولة الرومانية فيما بعد) من ناحية، وعلاقة أوروبا بأميركا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من ناحية أخرى، فالتشابه هنا يكمن في أن مصدر الثقافة والتنوير بدأ من خلال حركات استعمارية من المركز للأطراف، ثم انتقل الثقل السياسي من المركز للطرف والذي أصبح بدوره المركز، أما انتقال مركز الثقل الحقيقي للحضارة اليونانية فكان من خلال وراثة الدولة الرومانية لمقومات حضارتها، بحيث أصبحت روما هي الامتداد الثقافي لليونان والوريث السياسي والحضاري لها، وهكذا صارت اليونان النسيج الأول بل الأساس للحضارة الأوروبية التي اندلعت منها شعلة الغرب.
من التاريخ: وقفة على أطلال «الأكروبوليس»
من التاريخ: وقفة على أطلال «الأكروبوليس»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة