من التاريخ: وقفة على أطلال «الأكروبوليس»

من التاريخ: وقفة على أطلال «الأكروبوليس»
TT

من التاريخ: وقفة على أطلال «الأكروبوليس»

من التاريخ: وقفة على أطلال «الأكروبوليس»

وسط الأطلال الأثرية «للأكروبوليس» في مدينة أثينا الجميلة وقفت استنشق عبق التاريخ وأُمعن في أروقته التي يستطيع الإنسان أن يلمسها بمجرد النظرة لهذا الأثر الجميل، فهذا الحطام يعكس واحدة من أهم الحضارات في العالم وأكثرها تأثيرًا على الحضارة الغربية فضلاً عن كونها تمثل رافدًا مهمًا في نهر الحضارة الإنسانية، فهي قد مزجت بين الفكر والفلسفة والعلم وأسلوب الحياة والبعد الميتافيزيقي، وهي الأمور التي اختلطت لتلد لنا طريقة حياة أصبحت بعد قرون قليلة أساسًا للحضارة الغربية ذاتها. وعلى هذه الأطلال فوق الأكروبوليس تدافعت إلى الأفكار لا سيما أنها المرة الأولى التي أزور فيها أثينا بعد قرابة أربعة عقود درست فيها أهمية هذه الحضارة وفكرها، ولم أتدارك تدافع الأفكار وأنا أتأملها فقررت أن أشرك القارئ في أهمها وهي على النحو التالي:
أولاً: لقد أدركت أنني واقفٌ في قلب الحضارة اليونانية التي سُميت القارة الأوروبية كلها من خلال إحدى أساطيرها، فتشير المراجع إلى أن اسم أوروبا نفسه مشتق من الأساطير اليونانية حيث قام «زيوس» كبير آلهة اليونانيين باختطاف الأميرة الفينيقية الجميلة «أوروبا» وذهب بها إلى اليونان حيث اغتصبها وهو في شكل ثور أبيض، وعندما سعى أخوها «كادموس» للبحث عنها فإنه نشر الكتابة والقراءة في أرجاء الأراضي اليونانية، وقد فسر بعض المؤرخين هذه الأسطورة على اعتبار أن «فينيقيا» – جنوب لبنان في ذلك الوقت – كانت جزءًا لا يتجزأ من منطقة النفوذ المصري، وبالتالي فإن رحلة الأميرة «أوروبا» تعكس الانتقال الثقافي والحضاري الفرعوني من جنوب شرقي المتوسط إلى الشمال الشرقي. وتُلمح الأطروحة مباشرة إلى أن أساس الحضارة اليونانية هو الحضارة المصرية القديمة وبدرجة أقل الحضارات الشرقية الأخرى مثل الفارسية والفينيقية إلخ.
ثانيًا: شعرت للحظة بقيمة أن أكون فوق هذا المكان التاريخي، الذي يُعد قلب الحضارة اليونانية ذاتها بعدما كانت دويلة أثينا هي منارة الفكر والحضارة في ذلك الوقت، وهناك تذكرت أن الحضارة اليونانية أو الإغريقية القديمة تُعد الأساس الفكري للحضارة الأوروبية، وأحد أهم ثلاثة جذور كونت الهوية الأوروبية المستقلة إلى جانب الحضارة الرومانية والتجربة المسيحية في هذه القارة، ومع ذلك فإن الحضارة اليونانية هي الأساس الفكري والفلسفي والثقافي لهذه الحضارة، ويكفي أن الحضارة الرومانية بُنيت على أساس الحضارة اليونانية وتمثل معها المفهوم الكلاسيكي لهذه الهوية، الذي صار أساسًا لعصور النهضة في القرن الخامس عشر.
ثالثا: تذكرت والهواء الرطب يداعبني وأنا أشتم هواء البحر المتوسط النقي أن الفكر والثقافة اليونانية لم يمثلا فقط أساس الهوية الأوروبية، ولكن الحضارة اليونانية كانت تمثل أيضًا إحدى ركائز تطور الديانة المسيحية ذاتها، فأوائل الأناجيل كتبت باللغة اليونانية، التي أصبحت قاعدة مهمة لتفاسير الكتاب المقدس فأخذت اللاتينية منها وليس العكس، ومثلت هذه اللغة في مناسبات كثيرة الصخرة التي اختلف حولها أقطاب الكنائس في تفسيراتهم المختلفة، وعلى رأسها كنيسة القسطنطينية وهي يونانية الأصل والطابع والهوى منذ بداية عهدها، وكانت تلعب دورًا محوريًا في تطور العقيدة إلى أن تبوأت كنيسة روما الصدارة الدولية على الأقل من الناحية السياسية بدخول القرن الثاني عشر الميلادي.
رابعًا: تذكرت أنني أقف على تبة تاريخية ارتبط اسمها بالعاصمة أثينا، التي مثلت أساسًا مهمًا لكثير من المفاهيم السياسية منذ أن بدأت عملية الاستيطان اليوناني في منطقة شبه جزيرة المورة، وحولها من جزر الأرخبيل، وقد كانت التجمعات السياسية والاجتماعية اليونانية أهم ما صدرته اليونان لأوروبا فيما بعد، فأهم معطيات الحضارة اليونانية للهوية الأوروبية كان مفهوم الدويلة اليونانية City State، وكانت «دويلة أثينا» وهي أهم التكوينات السياسية، ومثلت أصغر دولة بمفهومنا الحالي في التاريخ، ولكنها تضمنت السمات الأساسية للدولة من حيث الإقليم والشعب والحكومة والسيادة المنفصلة التي أصبحت فيما بعد وفقًا للقانون الدولي تمثل الدولة مكتملة الأركان، وهي الدويلات التي كونت نظامًا إقليميًا مختلفًا من العلاقات الدولية، فكل دويلة كان لها استقلالها ولكنهم جميعًا كانوا يعيشون في عملية اعتماد متبادل بينهم Interdependence، لأنهم كانوا يكونون الهوية اليونانية المشتركة من خلال نظام معقد للعلاقات التكاملية فيما بينهم، وهذا ما جعل نظريات العلاقات الدولية الحديثة تبدأ بنيانها الفكري على فك أنماط تفاعل هذه المنظومة اليونانية بشكل يكاد يكون حرفيًا.
خامسًا: ولعل البعد العسكري الموحد كان من أكثر العناصر التي منحت الهوية اليونانية استقلالاً، فلقد حمت تطبيقات مفاهيم «الدفاع الجماعي Collective Defence» هذه الثقافة من المحاولات المستميتة للفرس السيطرة على اليونان، خصوصًا بعد معركتي «ثيرموبولي» و«سالاميس» اللتين أوقفتا الحملات الفارسية لاحتلال اليونان وثقافتها، وحتى عندما انقسم اليونانيون على أنفسهم في «الحروب البلوبونيزية»The Peloponnesian War، فإن عداواتهم لم تمنعهم من التحالف الفوري والقوي لمواجهة العدو الخارجي الذي يهدد ثقافتهم الجماعية، بل إن هذا العدو هو الذي خلق لهم مفهوم الهوية المشتركة والتي تطورت لأن تصبح أول قومية أوروبية معروفة.
سادسًا: فوق هذه التبة تذكرت الإسكندر الأكبر فافترشت رؤيتي لأعماق الأفق من حولي في محاولة عابثة لإدراك بُعد فتوحات أول قائد عسكري يسعى للسيطرة على العالم المعروف فأفشل بطبيعة الحال، لأن هذا الرجل وصلت فتوحاته إلى الهند وغزواته إلى قرب حدود الصين، فهذا النموذج الفريد لم يستطع أي قائد عسكري أن يتخطى حجم فتوحاته إلا شخص واحد وهو «جنكيز خان»، ولكن هذا لا يحرم الإسكندر من كونه في واقع الأمر الشخص الوحيد الذي حكم العالم المتحضر وحده، مؤمنًا بنسب إلهي من وحي خيال أمه، ولكن هذا الإيمان هو ما دفعه للسعي لنشر الثقافة اليونانية في كل ربوع مملكته. ومع ذلك فهو أول مثال للبشرية يعكس حقيقة أساسية، وهي أنه ما من دولة واحدة قادرة على بسط نفوذها الثقافي والفكري والعقائدي على العالم أجمع، فسرعان ما انحسرت إمبراطوريته وتفتت بعد مماته المبكر.
سابعًا: فوق هذه التبة العالية ووسط الحطام تذكرت سنوات ممتدة من دراسة وقراءة الثقافة اليونانية وأثرها المباشر على العالم كله في جميع المجالات، فكانت بحق المنارة الثقافية والتثقيفية في ذلك الوقت، وهنا تذكرت سوفوكليس أو «أبو التراجيديا»، الذي دمعت عيناي في صباها وهما تقرآن قدرته على بث التعاسة في الأدب الراقي، كذلك تذكرت أن اليونان كانت مركزًا للفن والأدب والفلسفة والرياضيات وعلم الفلك والدراما وغيرها من المجالات التي تشكل الثقافة الشاملة والهوية المختلفة، وليس من المبالغة التأكيد على أنه قلما تجود ثقافة واحدة بهذا الحجم من الكتاب والفلاسفة والفنانين والأفكار في كل المجالات مثلما حدث مع الثقافة اليونانية، فلو أخذنا الفلسفة وحدها سنجد سقراط وأفلاطون وأرسطو يمثلون الثلاثي الأساسي الذي بُني عليه علم الفلسفة والسياسة والمنطق، ليس فقط في اليونان بل في ربوع واسعة من العالم كله حتى يومنا هذا، فعلم الفلسفة يبدأ بهم، فغالبًا لا تبدأ أية فلسفة إلا من حيث انتهي الفلاسفة الإغريق. أما في مجال الأدب والدراما فلا جدال على أن أمثال الشاعر والأديب «هومير» صاحب مخطوطتي «الإلياذا» و«الأودسا»، وأريستوفانيس يمثلون مع غيرهم من اليونانيين أساسًا أدبيًا مهمًا للحضارات المختلفة.
وبعد هذا الكمّ الهائل من الأفكار والمشاعر انقطعت أحبال فكري وتأملاتي وأنا أحدث أحد الأشخاص لأقول له إن أغرب ما في الأمر هو أن التأثير اليوناني على أوروبا لم يكن تأثيرا ماديًا ملموسًا، فعلى عكس الحضارة الرومانية فإن الحضارة اليونانية لم تنتقل لأوروبا من خلال الوجود الفعلي أو العسكري للجيوش اليونانية، فمنذ نشأة النظام الإقليمي اليوناني فإن قبلته السياسية والعسكرية لم تكن غربًا، بل كانت نحو الشرق والجنوب اللذين اعتبرهما رواد اليونان «العالم المتحضر» في ذلك الوقت، أما الغرب فلم يكن منطقة مكتشفة بالنسبة لهم إلا في إطار استثناءات محدودة لأسباب متعلقة بالتجارة وبعض المستعمرات المتناثرة، فالقارة الأوروبية، خصوصًا غرب أوروبا لم تكن العالم المتحضر بالنسبة لليونان، تمامًا مثلما اعتبر الرومان شمال ووسط أوروبا أقاليم غير متحضرة تقطنها شعوب «بربرية» Barbarians، ومع ذلك فقد انتقلت الحضارة اليونانية وثقافتها للغرب من خلال التجارة مع شبه الجزيرة الإيطالية ومنطقة جنوب فرنسا، وهنا تفرض نفسها فكرة المقارنة بين علاقة اليونان بشبه الجزيرة الإيطالية (التي أصبحت مركز الدولة الرومانية فيما بعد) من ناحية، وعلاقة أوروبا بأميركا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من ناحية أخرى، فالتشابه هنا يكمن في أن مصدر الثقافة والتنوير بدأ من خلال حركات استعمارية من المركز للأطراف، ثم انتقل الثقل السياسي من المركز للطرف والذي أصبح بدوره المركز، أما انتقال مركز الثقل الحقيقي للحضارة اليونانية فكان من خلال وراثة الدولة الرومانية لمقومات حضارتها، بحيث أصبحت روما هي الامتداد الثقافي لليونان والوريث السياسي والحضاري لها، وهكذا صارت اليونان النسيج الأول بل الأساس للحضارة الأوروبية التي اندلعت منها شعلة الغرب.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.