ديانا مقلد
كاتبة واعلاميّة لبنانيّة
TT

دونالد ترامب وإغواء الجهل

هل علينا أن نتعامل بجدية أكبر مع احتمال وصول الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض..؟!
الإجابة التي كانت تبدو بديهية قبل أشهر قليلة تبدلت على نحو دراماتيكي، بحيث بات ترامب مرشحًا قويًا للرئاسة. فمنذ مدة وفي إحدى مقابلاته، سخر الرئيس الأميركي باراك أوباما من احتمال أن يصل رجل الأعمال الاستعراضي والمنفّر إلى البيت الأبيض. قال أوباما حينها إن تولي الرئاسة ليس مثل إدارة برنامج تلفزيوني، وإنه عمل شاق لا يمت بالصلة إلى السعي لجذب انتباه وسائل الإعلام.
لكن اليوم بات هذا الأمر أقرب إلى الواقع، ويبدو أن لعبة ترامب في جذب وسائل الإعلام وإغوائها قد نجحت، بعد أن تمكن من استثمار الدعاية السلبية والتغطية النقدية التي يحظى بها.
لم يخشَ ترامب لعبة الإعلام الجماهيري، وكان حاضرًا في كل البرامج والحوارات التي هدف مقدموها إلى السخرية منه، وكشفه، وإظهار اعتوارات خطابه وعنصريته. لقد سلمهم نفسه وسمح بالسخرية من شعره ومظهره وتكلُّفِه وكذبه، ولم يبخل في ترديد خطابه المفعم بمعاني الكراهية والعنصرية وقلة المعرفة والسذاجة. قدم ترامب نفسه بإفراط لوسائل الإعلام التي جعلته مادتها الأولى، وأحيانًا الوحيدة. ظهر في الحوارات والبرامج كما هو تمامًا، عنصري ديماغوجي بارع في التلاعب بالمشاعر والأساطير ونشر خرافات الوطنية.
كانت النتيجة أن ترامب انتزع دعم الناخبين الجمهوريين، وأن لعبة الإعلام السلبي حققت له شعبية. فأن ينتخب المقترعون شخصًا يريد أن يبني جدارًا ويحتقر النساء والمهاجرين المكسيكيين والصينيين، ويريد أن يعيد بعض تقنيات التعذيب في التحقيق وكل تلك التصريحات المقيتة ما كان يمكن أن تصبح واقعًا لو لم يحظَ ترامب بكل ذاك الحضور الإعلامي الكبير. لقد انجرف الإعلام الغاضب والخائف والساخر من ترامب، الذي هدف إلى كشف الرجل وكسب عقل الناخب، وإقناعه بأنه قد يختار أسوأ رئيس في تاريخ الولايات المتحدة، لأن يكون وسيلة تسويق غير مباشرة له. لعبة الإعلام سمحت للغة الخطاب اليميني الشعبوي التبسيطي بأن تتعمم، بما في هذا الخطاب من استعراض قوة ودعوات لممارسة العنف.
والحالة التي يعكسها دونالد ترامب تعني أن الجهل ينتشر بصفته هدفًا وطنيًا بحيث يصبح المواطن الأفضل شخصًا غير قادر على التمييز بين الحقيقة والهراء. إنه مثال للشعبوية الصاعدة ليس فقط في أميركا فلكل دولة ترامب الخاص بها. وكي لا نغالي في تصوير أننا ننظر من بعيد فيما نحن غارقون في هرائنا، يبدو خوفنا من تعميم ظاهرة ترامب في أكثر من مكان خوفًا مشروعًا، ولنا في بلادنا ظواهر ترامبية كثيرة يمكن بسهولة تعدادها في السياسة والإعلام.
فخداع الناس واحدة من الصناعات الناشطة، وأكثر ما يقلق المروجين للجهل هو أن يكون هناك جمهور متعلم مطلع بشكل حقيقي، فيلاقي كل من يحاول التفكير بجدية واستقلالية قمعًا وازدراء. والجهل الذي نعيشه اليوم في منطقتنا هو نتاج سنوات من الاستقطاب العقائدي والسياسي من قبل الأنظمة ومن قبل متطرفين. هذا الحال سمح بالكذب بشأن كثير من الأحداث والأمور سواء في التاريخ أو من الحاضر.
من دون شك، فإن التقنيات ووسائل التواصل سمحت بنشر معلومات خاطئة على نحو لم يكن ممكنًا قبلاً، لكن لنصدق ذلك فهذا يتطلب أمة ذات تعليم سيئ غير معتادة على التحقق من المعلومات. ففي الماضي إذا كان البعض لا يعرف شيئًا، ويتحدث هراء لم يكن يسمعه أحد، لم يعد ذلك الحال. مثل هؤلاء اليوم تحتفي بهم الصحافة وتنشر أخبارهم بشكل جدي من دون الإشارة إلى ضعف ما يقولون. فبالنسبة إلى جاهل ووطنجي، فالكذب دائمًا يبدو أكثر جاذبية من الحقيقة.
المخيف في ظاهرة ترامب أننا لسنا حيال مجتمع منخفض المستوى التعليمي والمعرفة متاحة أمامه على نحو غير متوفر لنا. هذا ما يدفع للاعتقاد بأن الأميركيين سيصوبون في الاقتراع الأخير خطأ جمهورييهم، لكن متى نصحح نحن أخطاءنا؟!
[email protected]