قاسم حول: عودة الغائب
* بعد سنوات من الغياب، عاد المخرج العراقي قاسم حول إلى العمل بإنجازه فيلمه الجديد «بغداد خارج بغداد» الذي يتولى فيه سرد حكايات تسبر غور الزمن منتقلة من الماضي إلى أمس قريب وموحية بالحاضر أيضًا إنما من دون فواصل زمنية تتراءى على الشاشة كحواجز فاصلة.
قاسم حول مخرج ممارس لأسلوب مختلف من العمل، وإن كان يلتقي مع الهامش العريض للسينما الواقعية. انطلق في الستينات حاملاً معه هويته المستقلة مناديًا، كأتراب آخرين له في ذلك الحين، بسينما بديلة للسائد. كان ترك العراق واستقر في لبنان، ثم عاد للعراق وحقق أفلامًا أقواها «بيوت في ذلك الزقاق».
ثم ترك مجددًا قبل التحولات العسكرية والأمنية التي عصفت في بلده ما تسبب في تحقيق أفلام متباعدة كان منها أخيرا «المغني»، وحاليًا «بغداد خارج بغداد».
الفيلم الجديد هو عن الغياب والموت في كل أشكالهما. هو موت بغداد كما موت الأهوار وموت الفن والثقافة والماضي الذي انتهى إلى ما العراق عليه اليوم. كذلك هو موت شخصياته الأدبية وأشعارها. وهو موت متعدد: البعض مات منسيًا في بلده والبعض الآخر مات منسيًا خارجها ومن هاجر حيًا عاد ميّتًا.
أسلوب المخرج البصري موازٍ لكل تلك الآهات العاطفية التي تعصف به. المشهد معني بتمثيله وبحركة الكاميرا فيه وبإضاءته. التوليف يأخذ وقته ليؤسس ويكمل السرد بالإيقاع ذاته. لولا أن إنتاج الفيلم تم بالميزانية المحدودة التي نالها المخرج من وزارة الثقافة، ربما لأمكنه الارتقاء ببعض المشاهد التي تبدو أضعف تنفيذًا وتصميمًا من سواها. لكن ذلك لم يمنع حول من إثراء المادة ومنحها الأجواء الصحيحة لكي تنقل لمشاهدي ما يجول بخاطره من رغبة تسجيل التاريخ للتذكير به مقارنة مع حاضر نتمنّى أن ننساه.
في المقام الأول، الفيلم هو مرثية حزينة على مدينة كانت عاصمة ثقافية وفنية وأدبية مزدهرة ذات مرّة، وأصبحت اليوم كيانًا لتاريخ مجيد اندثر بسبب تلك الحروب وما تلاها، التي أودت بالعراق كما عرفناه. يستقي المخرج في أحداث لا تسرد حكاية مألوفة، بل تؤلّف مشاهد من حياة وتاريخ. من ماضٍ بعيد يبعثه حاضرًا من خلال حسن قراءة المخرج للعلاقة بين الأسطورة والواقع. يعود إلى غلغامش لكنه يواكب أيضًا فترات الحياة الفنية والأدبية التي كانت تميّز بغداد. يسحب من الأسطورة شخصيات حاضرة تحكي وتروي وتبحر على سطح مياه النهر الذي يرمز لسرمدية الحياة.