تقترب ست دبابات من الموقع. يرصدها الملازم أول فيأمر جنوده بالتراجع وإخلاء المكان، حفاظًا على أرواحهم، فقوّة جنوده النارية لن تستطع مقاومة نيران تلك الدبابات. لكنه وفي غمرة تأمين انسحاب رجاله، وجد، وهو على خط الدفاع الأول، أن إحدى الدبابات أصبحت على مقربة أمتار منه. سارع إلى تسلقها وأخذ يطلق النار على طاقمها. حين التفت وجد أن ثلاث دبابات سارعت صوبه. أخذ طواقمها يطلقون النار عليه. أصيب. لكنه استخدم المدفع الرشاش الذي يعتمر الدبابة التي تغلب عليها وأخذ يطلق النار على الدبابات المتقدّمة. هذه توقفت عن التقدم ثم أخذت تتراجع بعدما أصابت طلقاته بعض أفرادها. لوحده أنقذ الموقع من السقوط ولو إلى حين وبناء عليه تم منحه أعلى وسام عسكري أميركي.
ما سبق ليست مشاهد من فيلم حربي، بل تلخيصًا للواقعة الفعلية التي خاض غمارها شاب أميركي كان التحق بالجندية وتم نقله أولاً إلى المغرب ثم إلى تونس وبعد ذلك على خط التماس خلال الحرب العالمية الثانية، حيث وقعت المعركة المذكورة في الثلاثين من يناير (كانون الثاني) سنة 1946.
حين عاد إلى الولايات المتحدة وفي أعقاب نيله ذلك الوسام الرفيع أجرت معه مجلة «لايف» (التي كانت تصدر أسبوعيًا آنذاك) مقابلة طويلة ووضعت صورته على الغلاف. بات حديث الأمّة، ووسامته جعلته نجمًا بين المراهقين والمراهقات. هوليوود لم تكن بعيدة عنه فاقتنصته كما كان يقتنص هو الدبابات.
هذا الجندي هو إيدي مورفي، الذي ذكر ما سبق وسواه في كتابه «إلى الجحيم والعودة» الذي كان كذلك عنوان أحد الأفلام الحربية التي قام ببطولتها (1955). ومع أنه لعب عشرات أفلام الوسترن في الخمسينات وحدها، إلا أن ذلك الفيلم الحربي احتل عنده وعند آخرين مكانة خاصة كونه أقرب إلى السيرة الذاتية.
إنها الحرب
في عمومها هي الحكاية ذاتها التي تصدّى لنقلها إلى السينما الممثل برادلي كوبر فاشترى الحقوق وبحث عن المخرج، وبعد أن تمنّْع ديفيد أو راسل وستيفن سبيلبرغ وافق كلينت إيستوود على القيام بالمهمة وحققها تحت عنوان «أميركان سنايبر» («قناص أميركي»، 2014).
هي الحكاية نفسها من حيث إن كوبر لعب أيضًا شخصية بطل عسكري حقيقي اسمه كريس كايل منح وساما أو أكثر لبطولته في أرض الحرب. عُرف بقتله 160 عراقيًا خلال الغزو الأميركي للعراق: الرقم الأعلى الذي سجله أي محارب فرد في أي حرب خاضتها الولايات المتحدة.
على ذلك، الفروقات كثيرة، ومن أهمها أن أميركا استقبلت البطل مورفي على غير ما استقبلت البطل كايل. في الأساس كريس كايل لم ينتقل من رحى الحرب إلى الاستوديوهات بنفسه، بل قام ممثل بتشخيصه، لذا فإن النجومية ذات مصدرين مختلفين: بطل قومي حط الرحال في هوليوود أواخر الأربعينات بعد أن أدّى دوره الوطني وبطل عسكري يؤديه ممثل لم يشترك في أي مهمّة قتالية في حياته.
الاختلاف البيّن الأكبر هو أن مورفي نشأ عندما كانت أميركا موحّدة والحرب كانت مهمّة وطنية لا غبار عليها. هذا على عكس ما أخذت تتلقفه الحروب الأميركية من ردات فعل مناوئة منذ أواخر الستينات، أي خلال الحرب الفيتنامية وإلى اليوم. معسكر واحد وقف وراء الحرب ضد النازية ومعسكرات متعددة بعضها مع الحرب وبعضها ضد الحرب فيما تلا من حروب، وخصوصًا الحرب العراقية.
لكنها الحرب كيفما نظرت إليها. قد تقع في أي مكان وفي أي زمن. تبدأ وتنتهي لدوافع مختلفة. دور السينما كان دائمًا منقسمًا حيالها ما بين التأييد والمعارضة وفي أحيان، هي لا مع ولا ضد، بل مجرد إظهار لواقع لا يود المخرج أن يحدد موقفه منه.
أحد تلك الأفلام الكبيرة التي اندمجت في شرخ بين التأييد والحياد كان «تورا.. تورا.. تورا» أحد الأفلام التي أرادت أن تروي كيف واجه الأميركيون الضربة الكبرى التي حلت على قاعدة بيرل هاربور العسكرية. الفيلم، الذي قام ريتشارد فلايشر بإخراجه مع مخرجَين يابانيَين لضمان نقل وجهة نظر الطرف الآخر، يمهد بكيف راوغ اليابانيون القيادة السياسية الأميركية بينما كانوا خططوا لتدمير القاعدة الكبيرة.
مشاهد الغارة على بيرل هاربور كلها تنضح بنجاح التفاصيل الكثيرة المتروكة بيد صانعي الفيلم لإدارتها من بدء الغارة إلى القصف وانفجار البوارج وحاملات الطائرات إلى محاولة التصدي المستميتة للدفاع عنها. أحد أكثر المشاهد تأثيرا هو ذلك المشهد الذي نرى فيه رجلاً من مشاة البحرية يتصدى للطائرات بمدفعه وهو مصاب. في الفيلم لا ذكر للممثل الذي يؤديه، لكن في الواقع هو شخص حقيقي اسمه جون ويليام فِن لم يشأ ترك موقعه والمدفع من يده إلا بعد أن أسقط واحدة من الطائرات اليابانية. لكن وإن لم يذكر الفيلم من قام بتمثيله، كما لم يذكر اسمه في عداد المعلومات أيضًا، إلا أن المشهد كان ما استحوذ على إعجاب المشاهدين من بين تلك المشاهد الصغيرة في الفيلم الكبير.
الحرب
حتى ذلك الحين كان الأميركيون جميعًا مع أي قرار تتخذه القيادة السياسية والعسكرية لدخول أي حرب يقرر البيت الأبيض دخولها، فما البال بمعركة تعرضت فيها أميركا لهجوم؟ «تورا.. تورا.. تورا» جاء، سنة 1970، ليتحدث عن الحرب الأميركية اليابانية في الأربعينات، لكن حضوره آنذاك لم يكن في فترة سلام. بل حط في صالات السينما بينما كانت الحرب الفيتنامية دائرة منذ سنوات (ولم تنتهِ إلا بعد سنوات أخرى) مما جعل الفيلم ينأى بنفسه عن أن يكون أكثر من وسيط ناجح بين المشاهد وبين ما وقع (أو جانبًا مما وقع في أضعف الاحتمالات).
قبله كانت الأفلام التي تقع حول أتون الحرب الفيتنامية قد بدأت تتوالى. وهذه بدأت تنقسم إلى معسكرات بعضها مع الحرب وبعضها الآخر ضدها.
الرأي العام الأميركي كان منقسمًا بشدة ما بين تأييد أميركا التي تدافع عن العالم الحر ضد سيطرة النظام الشيوعي على فيتنام الجنوبية وبين من أخذ يحصي عدد الجنود الأميركيين العائدين إما مشوّهين أو قتلى، مرددًا أن فيتنام بعيدة وما يدور فيها لا يهمنا كأميركيين. لذلك في حين عبّر «قبعة خضراء» لجون واين (1968) عن موقف مؤيد لتلك الحرب بلا استثناءات، انتقدتها، على نحو مباشر أو غير مباشر، أفلام كثيرة أخرى أولها فيلم خرج في نفس السنة بعنوان «صفحة ممزقة لمجد» لبوبي ديفيز.
في السبعينات تنوّعت الأفلام ما بين معارضة وأخرى تقع في صميم المعارك من دون تحبيذ لأي من جانبي الحرب. من الأفلام المناهضة «العودة إلى الوطن» لهال أشبي (1978) و«سفر الرؤيا» لفرنسيس فورد كوبولا (1979) ومن تلك التي صوّرت عنف القتال من دون تحبيذ لها أو عليها «اذهب واخبر الأسبرطة» لتد بوست (1978) و«همبرغر هِل» لجون إرفين.
لكن معارضة الحرب لم تتوقف على أفلام الحرب ذاتها، ذلك لأن السينما طرحت تأثير هذه الحرب على الناشئة في «الخاسرون» لجاك ستاريت مثلاً) أو رمزت إليها في أفلام مختلفة كما في فيلم الوسترن «جندي أزرق» لرالف نلسون (1970) حيث يقوم الجنود الأميركيون بإبادة الهنود الحمر في تذكير بأن الحرب هي ذاتها وإن اختلفت الضحايا.
مع بدء الحرب العراقية التفتت السينما الأميركية إلى وجهة بعيدة عنها. لم تشأ تحقيق أعمال سريعة بصرف النظر عن رسالات تلك الأفلام. لكن هذا الحذر كان لا بد أن يتداعى وشهدت السينما منذ مطلع القرن الحالي زيادة في عدد الأفلام التي تتناولها بما فيها «قناص أميركي» الذي اعتبره البعض مناوئًا للعنف والحرب واعتبره البعض الآخر مؤيدًا لها. بالإضافة إليه شاهدنا أفلامًا أكثر وضوحًا في معاداتها مثل «ستوب - لوس» لكمبرلي بيرس (سنة 2008) و«منقح» لبرايان دي بالما (2007). في أفلام أخرى شهدنا التزاما بالحديث عن تضحية الجندي الأميركي خلال الحرب وبعد عودته منها كشأن منفصل، «خزنة الألم»، لكاثرين بيغيلو، 2008 أو «المرسال» لأورين موفرمان، 2009.
كل حرب خاضتها الولايات المتحدة تم صنع كثير من الأفلام عنها، وعبر ملاحظة هذه الأفلام حربًا وراء حرب يمكن استطلاع ما هو أكثر من رأي كل فيلم على حدة، ذلك لأن كل فيلم إنما يتوجه لجمهور مختلف، بعضه مع الحرب والآخر ضده وفريق ثالث لم يتخذ قراره بعد.