خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

مشكلة لباس الرأس في العراق

قلما وجدت دولة بمثل هذا التنوع والتعدد بالطوائف والقوميات بالنسبة لعدد سكانها كما وجد في العراق عند تأسيس مملكة العراق في العشرينات. وكان من أول ما واجهته الحكومة الجديدة السعي لدمج كل هذه الطوائف والقوميات في كيان شعب واحد. انعكس هذا التعدد والتشرذم على أزياء الناس، لا سيما في غطاء الرأس. أوحى ذلك حتى للمونولوغست عزيز علي بأن يسخر منه بأحد مونولوغاته:
شعار الراس أصبح يا ناس أشكل أجناس
لهذا سعت الحكومة منذ أول أيامها إلى تبني لباس خاص للرأس: السدارة. لسوء الحظ لم يكن اختيارها موفقًا، فالسدارة لا تقي من المطر ولا من الشمس ولا تعطي تهوية للرأس. وكان سعرها مكلفًا فلم تنتشر كثيرًا وامتنع البعض عنها كليًا.
كان ممن امتنع عن لبسها النائب في مجلس النواب عبد الرزاق منير. وجد المسؤولون في إصراره على لبس الطربوش في المجلس بهذه الهيئة شيئًا جارحًا للسلطة والعهد الوطني الجديد وعائقًا ضد شيوع السدارة. بذل الكثيرون جهودًا كبيرة لإقناعه بلبس السدارة ولم يفلحوا. كان منهم رائد القومية العربية ساطع الحصري ورئيس الوزراء ياسين الهاشمي. ولكنه أبى وأصر على الاستمرار في لبس الطربوش الذي كان في الواقع ينم عن تمسك بالخط العثماني الذي ثار العرب ضده.
استاء من ذلك بصورة خاصة الملك فيصل. فقد كان ممن تبنوا لبس السدارة وأول من بادر بلبسها. والواقع أن السدارة شاع اسمها بين العراقيين باسم «الفيصلية» لارتباطها بالملك. لم يعرف الجميع كيف يعالجون الموقف. ففي تلك الأيام لم تجرؤ السلطة على فرض إرادتها على المواطنين بالقوة أو تحاربهم في رزقهم. لم يعرف أحد كيف يثني هذا القائد الوطني عن دخول البرلمان بالطربوش بدل السدارة. بيد أن الملك اشتهر بكياسته في التعامل مع المعارضين ومعالجة الأزمات بصورة سلمية وأخوية.
كان أبو شوكت، عبد الرزاق منير، جالسًا في بيته عندما سمع طرقًا على الباب. فتحوا الباب، فوجدوا أمامه سيارة تقل ملك العراق نفسه. نزل ودخل البيت حيث رحب به صاحب البيت وأمر بإحضار القهوة. وكان الملك يحمل كيسًا صغيرًا من الورق تحت إبطه. ففي ذلك الزمان، لم يكن أحد من العراقيين يخشى أن تكون قهوته مسمومة. وهكذا، فيما كان الملك يتناول قهوته، قال لعبد الرزاق منير: «جئتك زائرًا يا أبو شوكت، لأقدم لك هدية أرجو أن تقبلها مني». فأجابه على الفور: «يا سيدنا شلون ما أقبلها؟ أقبلها وأحطها على راسي».
وعندئذ أخرج الملك السدارة من الكيس وحطها على رأس الرجل! وهكذا واجه الأمر الواقع. لم يعد بإمكانه أن يتراجع عن وعده للملك وينزع السدارة. فاستمر بلبسها، بل ومعتزًا بها كهدية من ملك العراق.
رحمهما الله ورحم كل أولئك الأفذاذ الذين سعوا لبناء العراق الحديث بالحسنى والطيبة وسعة الصدر والسلوك السلمي الديمقراطي. يرحمهم الله جميعًا ويرحم تلك الأيام الطيبة.