قليلة هي المرات التي دخلت فيها «المنطقة الخضراء» التي ظلت توصف على مدى الثلاثة عشر عامًا الماضية بالمحصنة، بل الأكثر تحصينًا في العراق وربما في العالم.
معسكر مترامي الأطراف يمتد من شواطئ نهر دجلة الشرقية مقابل شارع أبي نواس الشهير بأكلة «السمك المسكوف» إلى أحياء الحارثية والقادسية جنوبها وغربها التي اتخذ عدد كبير من كبار المسؤولين فيها مناطق خضراء مصغرة. أسلاك شائكة وكاميرات مراقبة وجنود مدججون بالسلاح يحمون على مدار الساعة كبار رجال الحكومة والبرلمان والطبقة السياسية بالإضافة إلى عدد من السفارات تتقدمها السفارتان الأميركية والبريطانية.
قبل أيام قليلة دخلت «الشرق الأوسط» المنطقة الخضراء، كان ذلك قبيل عملية الشد والجذب التي قادها مقتدى الصدر، والتي أدت إلى نقل التظاهرات من مكانها المعتاد في ساحة التحرير وسط بغداد إلى بوابة المنطقة الخضراء بالقرب من ثلاثة أماكن شهيرة، وهي فندق الرشيد ووزارة الخارجية ومطعم أكلات شعبية اسمه «فلافل حيدر دبل» حيث تحولت إلى اعتصامات يوجه بوصلتها بمدده الزمنية الصارمة زعيم التيار الصدري حيدر العبادي.
أن تدخل المنطقة الخضراء، عليك أن تتسلح بأكثر من هوية تعريف فعراقيتك لا تكتمل بمجرد إبراز هوية الأحوال المدنية وحدها، أو جواز السفر وحده، أو شهادة الجنسية أو هوية العمل. بل يتوجب عليك إحضار هويتين إحداهما تسلمها عند أحد الشبابيك، والأخرى تتنقل بها بين أسوارها العالية حتى في الداخل.
عند إحدى نقاط الحراسة، حيث عليك الخضوع للتفتيش عدة مرات، وجدت نفسي أقول لمجموعة من الجنود حيث كانت المظاهرات تقترب من أسوار هذه المنطقة التي لا يحبها العراقيون: «ألستم من الأوساط الشعبية الفقيرة؟» أجابوا جميعهم وكان عددهم أربعة: «نعم». قلت لهم: «هل أنتم مقتنعون بكل هذه الإجراءات الشديدة التي هي في النهاية حماية لطبقة سياسية معظم أركانها بمن فيهم (رموز) كبيرة فيها متهمون بالفساد وبكل ما جرى للبلد من خراب ودمار؟»، كانت إجابتهم موحدة بعدم الاقتناع، بينما انفرد أحدهم بأن رفع غطاء الرأس (البيرية العسكري) ليقول لي: «أنا شاب في مقتبل العمر، ولكنك ترى شعر رأسي وقد اشتعل شيبًا، من وره هؤلاء»، قالها باللهجة العراقية.
في طريق خروجي قلت لزميل التقينا بالصدفة داخل المنطقة الخضراء إن ما يراهن عليه زعيم التيار الصدري بات في متناول اليد، ما دام هناك يحمي المنطقة الخضراء لم يعد مقتنعًا بغالبية من يسكنون فيها ويتحصنون داخلها بحيث لم تحصل إلا حالتا تفجير داخلها وكلتاهما كانت داخل البرلمان (عام 2006) حيث قتل أحد النواب (محمد عوض) واتهم آخر بتدبير العملية (محمد الدايني) الذي سحبت منه العضوية وتمكن من الهرب خارج العراق معلنا عدم مسؤوليته عما حصل وعاد العام الماضي وسلم نفسه للقضاء بعد أن حكم عليه غيابيا ليصدر قبل نحو أسبوع عفو خاص عنه لا يزال يثير جدلا في الأوساط السياسية، بعد أن ظهر أن الحكم لم يكن بحادثة البرلمان بل في إطار شكوى ضد وزير التعليم العالي الحالي حسين الشهرستاني أيام كان وزيرًا للنفط.
أما الحادثة الثانية فقد وقعت عام 2011 حين تمكن انتحاري من التسلل عبر بواباتها ليفجرها عند بوابة البرلمان. وعلى الرغم من الشهرة التي حازتها «المنطقة الخضراء» بعد عام 2003 لكنها لا تزال دون شهرة مطعم شعبي يختص بالفلافل يقع قبالتها يسمى «حيدر دبل».
ففي حال أردت أن تستأجر تاكسي إلى وزارة الخارجية أو فندق الرشيد أو بوابة المنطقة الخضراء لا يكفي أن تقول للسائق إحدى هذه الأماكن إلا مقرونة بعبارة «بالقرب من حيدر دبل». وفي سياق هذه الثنائية بين حيدر دبل والمنطقة الخضراء فإن العراقيين كانوا يتداولون طرفة تعود إلى عدة عقود إلى الوراء. ففي منطقة باب المعظم في جانب الرصافة من العاصمة بغداد يقع مبنى وزارة الدفاع على نهر دجلة. ويقع قبالة مبنى الوزارة الفخم والمهيب الذي كان اتخذه رئيس الوزراء الأسبق ومؤسس العهد الجمهوري في العراق عبد الكريم قاسم مقرًا له دكان صغير لبيع «لبن أربيل» الذي هو أشهر أنواع اللبن في العراق، والذي ينتج في منطقة كردستان.
وبسبب شهرة هذه الماركة من اللبن كان يقال إنه في حال أراد مواطن الاستفسار عن مكان وزارة الدفاع لا بد أن يقال «وزارة الدفاع مقابل لبن أربيل»، وليس العكس. اليوم يحاول زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر حيث نصب أنصاره خيم اعتصاماتهم عند تخوم «الخضراء» بالقرب من «حيدر دبل»، فإن رمزية هذه المنطقة بدأت تتهاوى. ففي الوقت الذي كانت فيه أكثر مكان آمن في العراق فإنها اليوم، ومع تصعيد التهديد باحتمال اقتحامها، أصبحت أكثر المناطق خطورة. كما أن سكانها الذين كانوا يتحصنون داخل أسوارها، لا سيما كبار المسؤولين منهم، الذين لم يكتفوا بالأسوار الخارجية منها بل بنوا أسوارًا داخلية حتى مع جيرانهم من كبار المسؤولين أيضًا، بدأوا اليوم بمغادرتها إلى بيئات أكثر أمنًا. فمنهم من ولى وجهه خارج العراق ومنهم من نقل عائلته إلى الخارج بينما اكتفى هو بالتوجه إلى المحافظة التي ينتمي إليها. بينما يعيش بقايا ساكنيها من الأهالي ممن لم تصادر بيوتهم حتى الآن لسبب أو لآخر قلقًا مضاعفًا. ففي حال تم اقتحامها فإن الأهداف الثمينة للمقتحمين لم تعد موجودة بينما الموجودون هم سكانها الأصليون الذين تحملوا كل سلبيات طبقتها السياسية ولم ينتفعوا منهم بشيء، مرددين المثل العراقي الشهير: «بخيرهم ماخيرونه.. وبشرهم عموا علينه».
بين «لبن أربيل» و«حيدر دبل».. عراقي بهويتين في المنطقة الخضراء
أهم منطقة محصنة في بغداد تستفز مكافحي الفساد
بين «لبن أربيل» و«حيدر دبل».. عراقي بهويتين في المنطقة الخضراء
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة