أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

هجمات بروكسل: مَن العدو؟

إننا في حالة حرب!».. هكذا كان توصيف رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس لمشاعره في أعقاب الهجمات الإرهابية التي ضربت العاصمة البلجيكية بروكسل، صباح الثلاثاء الماضي. وبحلول الظهيرة، بدا أن غالبية القادة الأوروبيين يتفقون مع رئيس الوزراء الفرنسي في توصيفه للحدث المأساوي.
ومع ذلك، فإن القول بأن أوروبا في حالة حرب يطلق العنان لتساؤلات أخرى مثل، أي نوع من الحروب تخوضها أوروبا؟ وضد من؟
وفي خضم محاولات السعي للإجابة عن مثل هذه التساؤلات، أعاد البعض الحديث عن «حرب الحضارات» التي بدأت تتصدر العناوين الرئيسية لبعض وسائل الإعلام. بيد أن هذا بدوره قاد إلى تساؤل أكثر صعوبة: أي الحضارات تحارب بعضها؟
في الواقع، إن التحليل القائم على فكرة «أننا نخوض حربًا» يلقي بنا في مواجهة مصاعب أخرى، ذلك أن الحرب لها تعريف محدد متفق عليه عالميًا، وقانون منظم لها ومعترف به، حتى وإن كان لا يجري الالتزام به دومًا، من قبل المتقاتلين في كل مكان. وعندما ينتهك مقاتل ما هذا القانون، فإنه يواجه اتهامات بارتكاب بجرائم حرب. وعليه، فإنه حتى في إطار الحرب تبقى للعدو حقوق يتعين على المرء الالتزام بها وإلا تعرض لما لا يحمد عقباه.
من ناحية أخرى، فإنه قد يحدث أحيانًا ألا نكون راغبين في التورط في حرب مع آخرين، بينما يسعى الآخرون بدأب للدخول في حرب معنا. وقد خلص بعض المعلقين إلى نظرية مفادها بأن جماعات إسلامية مفعمة بالسخط تجاه الغرب، أعلنت الحرب ضده.
بداية ينبغي الالتفات إلى حقيقة أن الإسلام ديانة، وهي ديانة اجتذبت إليها أتباعًا من جميع الأعراق والمجموعات العنصرية على وجه الأرض.
وبالمثل، تفتقر النسخة الأخرى من هذه النظرية التي ترى أن ما يدور هو حرب «ثقافية» إلى الإقناع، لأنه كما ذكرنا فإن الإسلام دين، وليس ثقافة.
وإذا كانت المعلومات الصادرة عن السلطات البلجيكية صحيحة، فإن مرتكبي هجمات بروكسل ينتمون إلى ذات المجموعة التي نفذت هجمات باريس، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
بمعنى آخر، فإنهم جميعًا ولدوا وترعرعوا مثل مواطنين أوروبيين من أصول شمال أفريقية، ومن المفترض أنهم على صلة بتنظيم داعش في الرقة بسوريا. بيد أن هذه النوعية الجديدة من الإرهابيين قتلت من المسلمين داخل سوريا والعراق، ناهيك في كثير من الدول ذات الأغلبية المسلمة الأخرى، أكثر مما أسقطت في باريس أو بروكسل. وتشير الأرقام إلى أن قرابة ثلث مقاتلي «داعش» مواطنون أوروبيون، مما يعني أن السوريين والعراقيين الذين يتعرضون للذبح على أيديهم، يمكنهم الادعاء بأنهم ضحايا «إرهابيين أوروبيين».
بغض النظر عن المكان الذي ولدوا فيه والمواطنة التي يحملونها، هناك عنصر واحد مشترك بين هؤلاء الانتحاريين القتلة: أنهم جميعًا ينتمون إلى توجه يطلق عليه العرب «التأسلم» الذي يسعى للحط من الدين إلى مستوى آيديولوجيا سياسية، سعيًا للوصول إلى السلطة.
والملاحظ أن مثل هذا التوجه يأتي في صور متنوعة، منها الفصيل الخميني في إيران ولبنان، و«طالبان» في أفغانستان، و«بوكو حرام» في نيجيريا، و«القاعدة» والجماعات التابعة لها في كثير من الدول العربية.
ومع ذلك، فإن مسألة اشتراك جميع هذه الجماعات في مسألة تحويل الدين إلى آيديولوجيا سياسية لتحقيق غايات سياسية، لا يعني بالضرورة أنه من المفترض التعامل معها جميعًا بذات الأسلوب.
داخل أوروبا، أو بالأحرى العالم الديمقراطي الغربي بوجه عام، وفرت التقاليد متعددة الثقافات التي تطورت خلال ما بعد الحقبة الاستعمارية المساحة اللازمة لظهور ونمو مثل هذه الجماعات وشنها هجمات في الغرب. الملاحظ أن من بين الدعائم الرئيسية للتعددية الثقافية ما يمكن وصفه بـ«الذنب الاستعماري»، الذي يعني إلقاء اللوم على الغرب عن أي خطأ يحدث في أي مكان من العالم. ومن شأن مثل هذا النمط من التفكير ترك الديمقراطيات الغربية من دون سلاح في مواجهة أعداء ألداء يؤمنون أو يتظاهرون بالإيمان بأنهم وحدهم يملكون الحقيقة المطلقة. إلا أن الخير الأعزل دائمًا ما يكون في موقف لا يحسد عليه في مواجهة الشر المسلح.
إذن، كيف يمكننا توصيف الأفراد الذين ارتكبوا هجمات 11 سبتمبر (أيلول) والنسخ الأصغر منها في كثير من المناطق الأخرى مثل بالي وبومباي ولندن ومدريد ونيروبي، ومؤخرًا باريس وبروكسل؟
هل يفي مصطلح «إرهابي» بالغرض؟ لا أعتقد ذلك، لأن الهدف الرئيسي للإرهابي ممارسة الإرهاب والترويع، وليس القتل العشوائي مثلما يفعل هؤلاء.
من جهته، اعتبر بيرنارد لويس، البروفسور بجامعة «برنستون»، هؤلاء الأشخاص طائفة «المغتالين» أو «الحشاشين» في صورتها الحديثة، لكن حتى هذا الوصف لا يخلو من إشكاليات.
لقد ركز «الحشاشون» اهتمامهم على القتل المستهدف لخصوم سياسيين وآيديولوجيين بعينهم، غالبًا ما كانوا مسؤولين سياسيين أو عسكريين رفيعي المستوى. وخلال حقبة الحروب الصليبية، قتلوا الفرسان الفرنجة البارزين طعنًا خلال نومهم، لكنهم لم يقدموا قط على قتل فرنجة عاديين بصورة عشوائية.
ومن المهم هنا التنبيه إلى أنه من دون التعرف على كيفية تعريف هؤلاء الأعداء بدقة، سنبقى في مواجهة مخاطرة الانزلاق إلى مستنقع خطابي لا نجاة منه. من جانبي، اقترحت منذ عام مضى أن نحيي مصطلحًا لاتينيًا قديمًا كان يستخدم في القانون الروماني في العصور القديمة، وهو «عدو للإنسانية». وتكمن ميزة هذه العبارة في أنها لا تحوي أي إشارات إلى عرق أو عنصر أو مواطنة أو خلفية دينية للشخص المشار إليه.
ورغم أن الخلفية العرقية والدينية للأفراد الذين يتورطون في أعمال القتل العشوائي بمختلف أرجاء العالم، مهمة من منظور الدراسات العلمية، فإن هذا الأمر لا ينسحب على صياغة استراتيجيات عملية للتصدي لهم وهزيمتهم وتدميرهم.
أما النسخة ما بعد الرومانية للعبارة، أي ما بعد الحقبة الاستعمارية، فكانت «العدو العام» التي نالت شهرة واسعة بظهورها في قانون نابليون. داخل الدول الاشتراكية القديمة تعرض المصطلح لتعديل آخر ليصبح «عدو الشعب». وتحمل الشريعة الإسلامية نسخة خاصة بها من المصطلح، تحت اسم «مفسد في الأرض»، وهو مصطلح يخلو من أي إشارات عرقية أو وطنية أو دينية لدى استخدامه في الإشارة إلى شخص تضر أفعاله بالبشرية.
في الواقع، إن التشبث بالتوصيفات الدينية أو العرقية أو حتى السياسية للقتلة لا طائل من ورائه على أفضل تقدير، وقد يؤتي بنتائج عكسية على أسوأ تقدير. من جهته، قال المتخصص في الدراسات الإسلامية، غيلز كيبيل، إن ما نحتاجه هو «العودة إلى الأندلس»، حيث من المفترض أن المسلمين والمسيحيين واليهود عاشوا معًا في سلام تحت حكم الخليفة. وقد دعا الراحل جاك بيرك الغرب إلى العمل على تشجيع المسلمين على إصلاح الفقه الإسلامي. في المقابل، يحلم اليمين الأوروبي المتطرف بشحن الأقليات المسلمة إلى «أوطانها» مجددًا رغم أن غالبيتهم ولدوا داخل أوروبا. أما الرئيس باراك أوباما فأعرب عن رغبته في أن يتناول الغرب «مظالم المسلمين».
قد يمكن الإشادة بجميع هذه المواقف، بل وقد تثمر نتائج إيجابية، لكن فقط على المدى الطويل للغاية. إلا أنه حتى يتم إنجاز إصلاح الفقه الإسلامي أو تناول مظالم المسلمين أو حتى شحن 35 مليون مسلم أوروبي إلى خارج أوروبا، من المهم أن نحدد بصورة صائبة العدو الراغب في قتلنا جميعًا بغض النظر عن عرقنا أو الخلفية العنصرية لنا أو ديننا أو مواقفنا السياسية. هنا أقترح استخدام مصطلح «أعداء الإنسانية».