ماذا يعني أن تقترن الدعوة إلى الصفاء الديني باستعمال القوة؟.. تبعًا لذلك، إلامَ يؤدي تحويل جماعة دعوية إلى قوة تمارس سلطتها فعلية على المجتمع؟
هناك الدين، الذي ينبغي الوصول إليه واعتناقه بـ«الإرادة والحرية»، وليس القهر والإجبار، وهناك الدعاة الذين هم «صوت» الضمير وليس «سوط» العذاب.
قبل سنوات من نهاية القرن الخامس عشر، وتحديدًا في الخامس من ديسمبر (كانون الأول) 1484 ميلادية، منحت الكنيسة في ألمانيا جماعة دينية تابعة لها تعمل امتدادًا لمحاكم التفتيش صلاحيات واسعة للقضاء على السحر والهرطقة.
وتولى اثنان من المفتشين إصدار كتاب يتضمن تصنيف وتحديد كل ما يتعلق بقضايا السحر والشعوذة، واعتبر دليلاً إرشاديًا لمكافحة السحرة دون هوادة، وحمل الكتاب اسم «مطرقة الساحرات»، لكنه من فرط استخداماته للاتهامات، وتصنيفاته المتعسفة لأنواع السحر، وضع غالبية خصوم المتدينين والطبقات الضعيفة في المجتمع كالنساء في قفص الاتهام، وبرر استخدام العنف لقمعهم، ولذلك وُصِفَ هذا الكتاب بأنه «أكثر كتب العالم حقدا، وأكثرها أذى».
لقد أعطى هذا الكتاب الذريعة للجماعات الدينية المتشددة أن تبطش في الناس بتهمة ممارسة السحر، وأصبحت المرأة أول ضحايا هذا الكتاب وهذه الجماعة، فقد شكلت النساء أكثر من 70 في المائة من المشتبه بهم، وخصوصا الأرامل المغلوب على أمرهن. وتم ترويج أساطير ودعايات تعظم من خطر السحر والسحرة، لا لشيء إلا لمنح هذه الجماعة دورًا في فرض وصايتها على الناس، وقهرهم بسطوة الدين، بل إن الدعاية السوداء وصلت إلى حدّ اعتبار النساء اللواتي سحبن إلى المقصلة هنّ السبب في هلاك الزرع، ونزول الصقيع، وأي بلاء آخر يصيب الأرض والإنسان.
بدأت هذه الحملة الظالمة في ألمانيا، وامتدت لعموم أوروبا، ومارست البطش والتعذيب والقهر ضد المتهمين، ولكن بعد أكثر من قرنين من الزمان، تجاوز الناس هذا الكتاب، وتلك الجماعة، فقد فهموا أن موجة الصرع التي تصيب رجلاً أو امرأة لا علاقة لها بالسحر والشعوذة، وليست مسًّا من الشيطان، بل قد تكون مرضًا نفسيًا يمكن معالجته. بمعنى أن العقل العلمي تغلب على العقل الخرافي، الذي كان وسيلة للسطوة والجبروت.
كانت تلك مجرد حلقة في سلسلة أرادت الجماعات المتشددة دينيًا عبرها بسط سلطتها على الناس لإخضاعهم واستغلالهم ماديًا، وبالمناسبة ففي فترة مقاربة ابتكرت كنيسة روما «صكوك الغفران» لتحصيل المال من رعيتها. لكن من كان الضحية؟ الضحية الأولى هو مكانة الدين في وجدان الناس، فقد ارتبط الدين آنذاك بمفهوم القسوة والسطوة والخرافة، وهو ما لا يليق بمكانته الروحية السامية، وعلى المدى البعيد أدت هذه الأفعال وما تبعها وما رافقها من معارك صكوك الغفران، والحروب الدينية، إلى الثورة ضد الكنيسة، والانتصار عليها، ثم تحجيم دورها في الحياة العامة كمقدمة ضرورية لصناعة النهضة والحداثة التي شهدتها أوروبا منذ الثورة الفرنسية عام 1789.
وحيثما تراجع التشدد، ظهر التيار الإصلاحي العقلاني، من بين هذا التيار المفكر الإنجليزي جون لوك (1632 – 1704) الذي ألف رسائل في التسامح، مشددًا على ضرورة قيام الحكم المدني وبقاء الدين كقوة روحية، ويقول: «الإيمان لا يؤثر بالقوة، بل بالمحبة»، وقبله قال ربنا: «إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ».
مطرقة الساحرات
مطرقة الساحرات
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة