من موقعه باعتباره ناقدًا وأكاديميًا وباحثًا متخصّصًا في الدراسات السردية والثقافية، يطلّ الدكتور عبد الله إبراهيم على التجارب السردية في العالم العربي وفي الخليج على نحو الخصوص. فقد كرس نفسه للدراسات السردية، وأصدر فيها عشرات الدراسات والأبحاث، وهو يرى أن «السرد ديوان العرب»، لأن الرواية قامت بتمثيل معمّق لأحوال المجتمعات العربية.
الدكتور عبد الله إبراهيم ناقد وأستاذ جامعي عراقي مقيم في قطر، نال درجة الدكتوراه في عام 1991 من كلية الآداب في جامعة بغداد. عمل أستاذا للدراسات الأدبية والنقدية في الجامعات العراقية، والليبية، والقطرية لغاية عام 2003. ثم منسقا لجائزة قطر العالمية للرواية من 2003 - 2010. ويعمل حاليا خبيرا ثقافيا في قطر، وهو باحث مشارك في الموسوعة العالمية، وحاصل على جائزة «الملك فيصل العالمية في الآداب» لعام 2014، وجائزة «الشيخ زايد للدراسات النقدية» في عام 2013، وجائزة «شومان للعلماء العرب» لعام 1997. «الشرق الأوسط» التقت الناقد الدكتور عبد الله إبراهيم، في العاصمة القطرية الدوحة، وأجرت معه الحوار التالي:
* بلغني أنك تعدّ الرواية «ديوان العرب» الجديد.. ما القاعدة النقدية التي تنطلق منها إلى هذا القول؟
- نعم، أنا من القائلين بأن «السرد ديوان العرب» في العصور الحديثة بعد أن كان الشعر ديوانهم في الماضي. فقد قام الخطاب السردي، ممثلا بالرواية، بتمثيل معمّق لأحوال المجتمعات العربية، بما في ذلك الحريات، والهويات، ومصائر المنفيّين، والمهجّرين، والنساء، وأصحاب الرأي، وضحايا الحروب الأهلية، فضلا عن ضحايا الاستبداد السياسي والاجتماعي والديني، وهم كثر، فإن لم تكن الرواية هي السجل الشامل لذلك، فأين هو ذلك السجل الذي نجد فيه كل ذلك؟
* ماذا تمتلك الرواية لتصبح ديوان العرب؟
- يلزمنا تعديل النظرة إلى الرواية بترحيلها من كونها نصا مغلقا إلى خطاب تعدّدي منشبك بالخلفيّات الحاضنة له. إنها فعلا «ديوان» نتلمّس فيه ما يثير الهلع في النفوس عن الجماعات القبلية والمذهبية والعرقية، وهي «ديوان» كاشف للاحتقانات الفردية في مجتمعات تتوهّم بأنها طاهرة لا يأتيها الإثم على الإطلاق. وإلى كل ذلك، خاضت الرواية العربية مغامرة جريئة في تطوير بنياتها السردية والأسلوبية، واقترحت لغة جديدة غير اللغة المعيارية التي أصبحت موضوعا للبلاغة التقليدية في القرون الوسطى. وصار الاعتراف بها أمرا لازما بوصفها الممثل الرئيسي للأدب القومي في الثقافة العربية الحديثة. وهذه القاعدة تمنح الشرعية لظهور حقبة جديدة في تاريخ الرواية العربية، آن لها أن تعلن عن نفسها. إنها بحق وحقيق ديوان العرب.
* لكنك قلت مرارا إنها تعاني عيوبا كبيرة مثل: الركاكة الأسلوبية وفقر المعجم اللغوي وجهل بعض الروائيين كيفية بناء الشخصيات والأحداث.. ماذا بقي إذن منها لتكون ديوانا للعرب؟
- ذكرت من قبل الأسباب التي جعلتني أؤيد القول بأنها ديوان العرب، أي السجل المعبّر عن أحوالهم، ولكن لكلّ ديوان عثراته، وللرواية عثراتها، ففيها جملة من الأمراض تحتاج إلى علاج جذري، منها: التكديس الإنشائي بما أعتبره وَرَمًا ينبغي استئصاله، لأنه يحول دون سلاسة الأحداث، ورشاقة الشخصيات، إنما يعوق حركتها، ويطمرها تحت وابل من الهوس اللفظي الذي لا ينفع، إنما يضرّ بكل عناصر البناء الفني للرواية، ومنها العاطفية الساذجة التي تكتنف مشاعر الشخصيات، وذلك يذكّر بالحقبة الرعوية في تاريخ السرد، فالأحاسيس الجوانية يجب ألا تكون مجانية ترمى في سياق السرد دون تدبّر وهدف، إنما تنبثق بغزارة من المواقف الناظمة للشخصيات. هذه وغيرها من العيوب الأسلوبية والتركيبية لا تتوافق مع شروط الصنعة السردية الحديثة.
* التاريخ السردي
* اخترت السرد ميدانا للممارسة النقدية منذ البداية ولم تحد عنه.. ما أبرز ما لفت انتباهك في الخطاب السردي العربي الذي اشتغلت على تحليله في «موسوعة السرد» وغيرها من كتبك؟
- لفتني أن الرواية أمست أداة للحفر في المنطقة المسكوت عنها في الحياة الاجتماعية، فانخرطت في معمعتها بأفضل ما يكون الانخراط، ولفتني انهيار القيم الداعمة لوظيفة السرد القديم وتبعه انهيار الأساليب المتصنّعة في الكتابة، ثم انهيار مقومات الحكاية الوعظية. ولفتني السرد الجريء الكاشف لأحوال العالم الذي نعيش فيه، فالرواية العربية، في كثير من نماذجها، تولّت كتابة «تاريخ سردي» للمجتمعات الحاضنة لها، وقد ذهبت إلى المكان الذي ينبغي أن تكون فيه، إذ تزحزحت وظيفتها من كونها حكاية متخيّلة إلى خطاب رمزي باحث في الشأن العام. وهذه قضايا شائكة أنجزت الرواية معظمها، وهي جادة في إنجاز ما تبقى منها.
* ما دام الأمر كذلك.. فما الذي ينقص الرواية العربية عموما والرواية في منطقة شبه الجزيرة والخليج خصوصا من مزايا لكي تبرأ من العيوب؟
- تعاني الرواية العربية عيوب الكتابة الرديئة، مثل الإنشاء، والإسهاب، والعواطف المترهلة، والجهل بمزايا اللغة العربية، وعدم الاهتمام بقواعد الكتابة السردية. هذه العيوب متوفرة في الرواية العربية بكثرة، والخليجية منها على وجه خاص، ولو جرى التخلص منها لأصبح البديل مزايا ثمينة ينبغي التمسّك بها، لكن ما أسجله من عيوب يفوق ذلك، منها افتقار الرواية إلى النواة السردية الصلبة التي تنتهي إليها، أو تصدر عنها العناصر السردية كلها. لا أقصد بالنواة حدثا جامدا يبنيه السرد بتدرّج، إنما أقصد أن يقوم السرد بتشكيل كتلة سردية من الأحداث المتلازمة التي تصبّ في مجرى كبير يضم الوقائع والشخصيات، فلا مكان للوهن في المفاصل الرابطة فيما بينها، ولا مكان للاستطراد الإنشائي الذي يخرّب قيمة المشهد السردي، أو يعوق حركة الشخصية، إنما يتيح حركة حرة ورشيقة لها ولسواها من الشخصيات أن تعبّر عن مواقفها، وأفعالها، ورؤاها، بأفضل طريقة ممكنة، فالتركيز ينبغي أن ينصبّ على الأحداث، والأفعال، والمواقف، والأفكار، وليس على الوصف، والاسترسال، والتغنّي بالمشاعر الساذجة، والتأملات المبهمة التي تعوق حركة الحدث، ولا تثري أعماق الشخصية، فحذار من الانبهار بلفظ، والاشتياق الشخصي لجملة، والتغنّي بعبارة، وينبغي تجنّب الإطناب الإنشائي الذي يفضح عجز الروائي عن حبك الأحداث، وابتكارها، ولا يفيد في إثراء النواة الأساسية في روايته، التي هي مدار السرد. كثير ما جرى ذكره شائع في رواية الخليج وشبه الجزيرة العربية.
* المرأة وسؤال الحرية
* لاحظت أن الكتابة السردية النسوية تدور حول فكرة إثبات الذات أمام ذكورية الرجل.. أليس للمرأة قضية أخرى؟
- هذا اختزال مخلّ للسرد النسوي في تقديري. من الصحيح أننا نجد هذه الضدية فيه، وهو أمر مفهوم في ظل التنازع حول الأدوار الاجتماعية بين المرأة والرجل، لكن هناك أشياء أهم، فالسرود النسوية بحثت في حرية المرأة، وزعزعت معتقدات المتلقّي، وإلى ذلك قامت تلك السرود بتمثيل تجارب نسوية لا تعرف الولاء والطاعة، وفيها من الخروج على الأعراف أكثر ما فيها من الامتثال لها، فتحرّكت في مناطق شبه محرّمة، وأحدثت قلقا في الانسجام المجتمعي، لأنها دعت إلى حريات فردية تكون بديلا لحرية القطيع، وهي حرية بهائم. السرد النسوي يختلف عن الكتابة الباعثة على الارتياح التي تستجيب لتوقّعات المتلقّي، وتشبع رغباته، وتتوافق مع الأعراف السائدة في المجتمع الذي يعيش فيه. براعة السرود النسوية فيما تترك من أسئلة لا ما تخلّف من استرخاء. وأول تلك الأسئلة سؤال الحرية.
* هل هناك سرد نسوي فعلا؟
- للجواب على هذا السؤال الاستنكاري أقول بوجود نوع من السرد يصح الاصطلاح عليه بـ«السرد النسوي»، وقد صيغت هُويّته استنادًا إلى ما يأتي: نقد الثقافة الذكوريّة الكابحة لحرية النساء وحقوقهنّ، واقتراح رؤية أنثويّة للعالم تكون بديلا عن الرؤية الذكورية، ثمّ الاحتفاء بالجسد الأنثوي على أنه علامة للإغراء والشغف والتجدّد. وينبغي التفريق بين كتابة النساء، والكتابة النسويّة، فالأولى تتمّ بمنأى عن الرؤية الأنثويّة للعالم وللذات إلاّ بما يتسرّب منها دون قصد، وقد تماثل كتابة الرجال في الموضوعات العامّة، أمّا الثانية فتتقصّد التعبير عن حال المرأة وهويتها الأنثوية استنادا إلى رؤية خاصة في معاينة الذات والعالم، ثمّ نقد جذري للثقافة الأبويّة المستندة إلى مفهوم الطاعة والتبعية، وأخيرا اعتبار جسد المرأة مكوّنا جوهريّا في الكتابة ومركزا لها، وتُصهر هذه العناصر في إطار الفكر النسويّ، وفرضيّاته وتصوّراته ومقولاته، سعيا إلى بلورة مفاهيم أنثويّة من خلال السرد، وتفكيك النظام الأبوي بفضح عجزه عن قبول الشراكة.
* أطلقت مصطلح «الفصاحة السردية الجديدة».. ما حدود هذا المفهوم الجديد في عالم السرد؟
- لا أقصد بـ«الفصاحة السردية الجديدة» فصاحة اللغة بذاتها، كما طرحها القدماء، وإن كانت اللغة أحد شروط الفصاحة السردية. ليس لهذا المصطلح وظيفة لغوية مباشرة إنما وظيفة تمثيلية، وينهض المصطلح على الأركان الآتية: الأخذ بالطرائق الجديدة في تنظيم أبنية الأحداث والشخصيات، ورسم الخلفيات الزمانية والمكانية، وتعميق وظيفة التمثيل بما يشفّ عن المرجع بحيث يتداخل الأمران، الخيالي والواقعي، فلا سبيل لفك الصلة بينهما إلا على سبيل التأويل، واعتماد لغة سردية محكمة لكنها معبّرة، وإطلاق الخيال الخلاق للارتقاء بالأحداث إلى مستوى عالٍ من الإيحاء الدلالي، ثم بناء عالم افتراضي موازٍ للعالم الواقعي يلتهم أهمية ذلك العالم، ويجعل من نفسه العالم الأهم عند القارئ، مع الحرص على مدّ الصلة بين العالمين بتمثيل سردي شامل. لا يأخذ المصطلح الجديد في اعتباره المفهوم الموروث للفصاحة القائم على الألفاظ وحدها، إنما يهتم باللغة باعتبارها نظاما تمثيليا لابتكار المعاني الجديدة، وتلك هي «الصنعة السردية» التي أراها جديرة بالتقدير النقدي.
* كنت عضوًا في تحكيم جائزة «البوكر» وجوائز عربية أخرى.. كيف ترى الأصوات الجديدة في الرواية العربية؟ ولماذا يخفق كبار الروائيين في التأهل لجوائز الرواية؟
- أراهن نقديا على الأصوات الجديدة، لأنها دفعت بالرواية العربية إلى مرحلة جديدة لم تخطر للجيل الذي سبقها، ولدي تفسيري لمضمون سؤالك في جانبيه، فبعد جيل الرواد الذي منح شرعية للكتابة الروائية في نحو منتصف القرن العشرين، ظهر الجيل الثاني في الثمانينات تقريبا، وهو الجيل المكرّس الآن في معظمه، فحذا حذو الأول في رؤيته للعالم، والأخذ بطرائق السرد، إلا ما ندر، ويلاحظ على رواياته الرتابة في الأحداث السردية، والإغراق في الإنشاء، وعدم الاهتمام ببناء الشخصيات، وبالإجمال، كتب الجيل الثاني نصوصا مسترسلة، فيها تكرار ممل، لا تكاد تعثر فيها على حبكة متماسكة أو قضية خلافية. تموت الكتابة حينما تتوهم أنها استقرّت على حال، ويموت كاتبها أيضا، وظنّي أن كثيرا من كتاب الجيل الثاني ركنوا إلى ذلك، فانحسر تأثيرهم الإبداعي، وبقي تأثيرهم الشخصي، لكن العقدين الماضيين بلورا جيلا ثالثا نهل من المكاسب الكبرى في الرواية العالمية، وتفاعل معها، وتوسّع فيها توسعا محمودا، وعرف وظيفتها الجديدة، وظيفة البحث في أحوال المجتمعات، والانفتاح على نمط جديد من التفكير والتعبير، نمط الدقة والحركة والبحث، وهو ما لم ينتبه إليه الجيل السابق كما ينبغي، ولم تنقص الجيل الجديد الشجاعة في الإفصاح عن وجهات نظر كاشفة، ولهذا استحقّ بعضهم التقدير النقدي وسواه، بما فيه نيل الجوائز الكبرى. وعلى الرغم من ذلك فقد رافق ظهور الجيل الأخير عدد كبير من الهواة عاثوا فسادا في الكتابة، وتوارى الآن كثير منهم، ومع ذلك فالجيل الجديد دفع بالرواية إلى منطقة حساسة، فيستأهل الثناء، على أنه لا ينبغي أن تُمنح الجوائز لترضية هذا الكاتب أو ذاك، مهما كان أمره، إنما تُمنح للروايات المتوفّرة على معايير الكتابة الحقيقية. لا تكبُر الجائزة بالروائي إنما بالرواية.
* أنت متخصّص في الدراسات السردية ولك فيها عدد كبير من المؤلّفات وأفترض أنك متابع للإنتاج السردي في شبه الجزيرة والخليج.. كيف تقرأ ذلك النتاج؟ هل ثمة رواية جديرة بالاعتبار في هذه المنطقة؟
- جعلتني إقامتي في الخليج شاهدا على حال الكتابة السردية في هذه المنطقة. معلوم أن هذه حديثة عهد بالرواية مقارنة بغيرها، لكن هذا بذاته ليس مثلبة أبدا، فثمة ظروف تاريخية واجتماعية تقف وراء نشأة الأنواع الأدبية، إنما يأتي الخطر من تعجّل الكتاب، وإغراق معظمهم في التقليد، وولعهم بالمحاكاة، وشعورهم بالأفضلية على سواهم بناء على ذرائع واهية في عالم الإبداع، هذا من جهة، ومن أخرى فإن مجتمعات شبه الجزيرة والخليج محافظة لا تقبل المسّ بالقيم التقليدية والقبلية إلا إذا كان تبجيلا وثناء، والسرد ليس مثل الشعر، فوظيفته تمثيل الأحوال العامة، وموضوعه تشريح المشكلات الاجتماعية، وعليه فالكتابة الحقيقية متعثرة، وينظر إليها بعين الارتياب، وتلاقي إهمالا مقصودا، أما الدخيلة المتعجّلة فتلاقي احتفاء باعتبارها ممثلة للآداب الوطنية في بعض الأقطار. إنني غير ميال للذم، ولا أنتقص من شأن الكتابة على أسس جغرافية، فمعياري الجودة، ويتعذّر علي تزوير الحقائق لأي سبب، ولكن هذه هي الحال، وعلى الرغم من ذلك فهنالك عدد من الكتاب المرموقين يستثنون من هذا الحكم، منهم على سبيل المثال: إسماعيل فهد إسماعيل، ورجاء عالم، وطالب الرفاعي، وجوخة الحارثي، ويحيى أمقاسم، وعلي المقري، وعلي أبو الريش، ومحمد عبد الملك، ودلال خليفة، ومن هم في طبقتهم في الإجادة والفطنة والدراية، أما خُدّج الرواية فلا حصر لهم، ولا عدّ، وهم يمرحون بجراءة في كل محفل أو مناسبة، ثم ينطفئون بسرعة مثل الخلّب. إذا جرى حماية الكتابة الرفيعة من خطر الخُدّج، وهو استهجان الكتابة بجميع مقتضياتها، فإنّ التراكم الكمي سيفضي إلى تطور نوعي في رواية شبه الجزيرة والخليج.