خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

حرب الثلاثين عامًا

نشرت مجلة «نيوستيتسمان» البريطانية، والمعروفة باتجاهاتها اليسارية، دراسة مستفيضة بإعداد فريق من خبراء الشرق الأوسط والتاريخ الأوروبي، عما يجري في الشرق الأوسط. قدمت الدراسة مقارنة بين ما جرى ويجري في الشرق الأوسط من حروب وقتال وإرهاب خلال الثلاثين سنة الماضية، وبين ما جرى في أوروبا الوسطى خلال القرن السابع عشر، بما عُرف في التاريخ الأوروبي بحرب الثلاثين سنة.
بعد نزاع طويل بين المسيحيين الكاثوليك والمسيحيين البروتستانت تفجر الموضوع بحرب دامية شنيعة بين الولايات المختلفة من أواسط القارة الأوروبية، لا سيما الولايات الألمانية. لم تقف الحرب على سفك الدماء فقط، بل شيوع المجاعة بنتيجة تجنيد الرجال للقتال، بحيث لم يبق هناك من يزرع ويرضع. وبالفعل روى الرواة كيف أن حتى الأبقار في المزارع أخذت تزأر وتصرخ متألمة من تخزن الحليب في ضرعها وما من يد تحلبها وتريحها منه.
استمر القتال لثلاثين سنة حتى ملّ المقاتلون من القتل، وملّ الساسة من التآمر. وما أشبه الليلة بالبارحة عندما ننقل أبصارنا نحو منطقة الشرق الأوسط. تناول الموضوع مؤخرا منتدى السياسة الجغرافية «جيوبولتكس» لجامعة «كامبريدج» في إنجلترا. أسسوا في إطاره ما سمي «مختبر بناء العالم». تولى هذا المختبر موضوع الحروب الحالية في الشرق الأوسط خلال الثلاثين عاما الماضية. اختاروا هذه المدة الزمنية تشبها بحرب الثلاثين عاما في أوروبا مثلما ذكرنا.
لاحظوا أن الساحتين تتشابهان لا من حيث المسافة الزمنية فقط، وإنما تتشابهان أيضا من حيث موضوع النزاع، ألا وهو النزاع الديني والطائفي: الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا في القرن السابع عشر من جهة، والشيعة والسنة من الجهة الأخرى في القرن العشرين والحادي والعشرين.
قلت، إن حرب الثلاثين عاما في أوروبا أرهقت المقاتلين والساسة، بحيث أوصلتهم إلى الطريق المسدود. لم ينتصر انتصارا كاسحا أي من الطرفين. فشعر كلاهما: آه! يا من يأتي ويفكنا بعضنا من بعض.
يرى الباحثون في «كامبريدج» أن الدول المتطاحنة في الشرق الأوسط وصلت تقريبا إلى نهاية الطريق المسدود. رحنا بالفعل نسمع بعضنا بعضا من يرفع يده إلى السماء ويقول: آه! يا من يأتي ويفكنا من كل هذا!
عندما وصل المتقاتلون إلى هذه النقطة في أوروبا، انبرت الدول الكبرى، وفي مقدمتها فرنسا والسويد، لجمع الأطراف المتقاتلة التي أنهكها القتال للجلوس حول مائدة المفاوضات، وارتضوا بالحلول التي وضعتها الدول الكبرى بعد التشاور مع الجميع. توصلوا أخيرا إلى ما سمي «اتفاقية وستفاليا لإنهاء النزاع». وقامت الاتفاقية أساسا على الاعتراف بما هو قائم من الإيمان الطائفي وعدم التدخل لإثارة ما هو قائم أو تشجيع الآخرين على قلقلة السكينة. تعهد بذلك سائر الأطراف.
والظاهر أن ما سمي «مختبر بناء العالم» يتطلع إلى وصفة مشابهة لوصفة «وستفاليا» في الشرق الأوسط، تتبناها دول كبرى تجمع بين سائر الأطراف المتنازعة، وتحملها للوصول إلى اتفاق يحترم الوضع القائم مذهبيا ودينيا، ولا يتدخل في شؤون الغير أو يحرض الآخرين على قلقلته.