توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

حول التعليم والتطرف

قبل بضعة أيام أعادت وزارة التعليم السعودية التأكيد على تصفية المكتبات المدرسية من الكتب الداعية للتطرف. وهذا جزء من سياسة أقرت قبل سنوات، هدفها تجفيف مصادر التشدد في التعليم العام.
ومثل كل الأخبار الجديدة، حظي القرار بتأييد بعض الناس وعارضه آخرون. لكن في المجمل أعاد القرار إحياء نقاش قديم حول مصادر التطرف في الثقافة العامة، سيما ثقافة الشباب.
يجب القول ابتداء إن هذه ليست مهمة يسيرة ولا يمكن إنجازها في بضع سنين. كما لا ينبغي المبالغة في تحميل المدرسة عبء المهمة بمجملها. الميول المتطرفة ليست ثمرة عامل واحد، وعلاجها ليس سهلا كي يلقى على طرف واحد. يعرف الاجتماعيون أن تشكيل الذهن الجمعي، أو ما نسميه هنا بالثقافة العامة، يتأثر بعوامل كثيرة، بعضها ثقافي بالمعنى الخاص مثل التعليم والإعلام والتربية الدينية، وبعضها بعيد تمامًا عن هذا الإطار، كالاقتصاد والسياسة والتقاليد الاجتماعية والموقع الطبقي.. إلخ.
من هنا، فإن تفكيك الميول المتطرفة يحتاج لاستراتيجية وطنية شاملة، تتعامل مع الثقافة في معناها الموسع، أي مجموع المصادر التي تشكل الذهن الجمعي.
بعد سنوات من القراءة والتأمل في العلاقة بين الثقافة والعنف، أستطيع القول إن أحد المفاتيح الرئيسية لفهم المشكلة يكمن في «المنغلقات» أو الطرق المسدودة. يمكنني تعريف المنغلقات بالصدام بين الإرادة والعجز. ثمة مثال معروف يضرب عادة لإدانة السلوك الهروبي من المشكلات، لكني أراه صالحا لتوضيح مسألة الصدام تلك. فحوى المثال أن تلميذا فشل في الاختبار وحين سأله زملاؤه عن السبب أجاب بأن معلمه حاقد عليه فأسقطه عمدا. يضرب آخرون مثلا بابن الشيخ الذي عانى من عنف أبيه فاتجه إلى الإلحاد. وحين سئل الأب عن السبب وضع اللوم على المدرسة والتلفزيون ورفاق السوء.. إلخ.
يكثر سرد هذين المثالين وأشباههما لتأكيد العلاقة بين الفعل ورد الفعل. وينظر إليهما عادة كدليل على خط مستقيم يشبه القاعدة المعروفة في الفيزياء: كل فعل يولد رد فعل يساويه في القوة ويعاكسه في الاتجاه.
وأرى أن استعمال هذه القاعدة لتفسير الفعل والانفعال الاجتماعي غير سليم، أو أنه - على أقل التقادير - قاصر عن إيضاح الطبيعة المركبة للفعل الإنساني وما يترتب عليه من تموجات في المحيط الاجتماعي. إن تبرير التلميذ لفشله في الامتحان بحقد معلمه قد لا يكون - بالضرورة - تعبيرا عن رغبته في تبرئة نفسه من المسؤولية، بل قد ينم عن جهله بالأسباب الأخرى المحتملة. تماما مثل لوم الشيخ للتلفزيون والمدرسة ورفاق السوء، الذي قد يخفي عدم إدراكه لمجموع العوامل التي قادت إلى هذه النتيجة.
كان المفكر الأميركي دانييل ليرنر قد ناقش بالتفصيل مسألة «التكيف=empathy»، بل اعتبرها محور نظريته حول التحديث والتنمية. تعرف القابلية للتكيف بالقدرة على اكتشاف وتبني بدائل / تفسيرات أو حلول بديلة عن المألوف والمعروف مسبقا. وبهذا فهو المقابل لما أسميته «المنغلقات» أو الطرق المسدودة والأحادية. أعتقد أن أي استراتيجية وطنية لمعالجة التطرف ينبغي أن تركز على كشف ومعالجة المنغلقات، أي نقاط التصادم بين الإرادة والعجز. هذه النقاط منتشرة في حياتنا الخاصة والعامة. وكثير منها يتحول إلى توترات ثقافية / ذهنية، تشكل أرضية خصبة لاستقبال دواعي التطرف ودعواته. المدرسة قد تلعب دورا مهما في تسكين أو إعادة توجيه ميول الشاب. لكن من المبالغة اعتبار هذا الدور حلا كاملا.